… وبين “خلدة” اللبنانية و”الخالصة” التي صارت – بالقهر – كريات شمونه، يمتد شبح أنور السادات ملقياً بظل تجربته البائسة ونتائجها المدمرة بشهادة واقع مصر (والعرب) الراهن، كما بشهادة “حروب لبنان” المتصلة منذ العام 1975، وحتى الاجتياح فالاحتلال الإسرائيلي للبنان… أي غداة الانتهاء من بيع ما تحقق في “حرب رمضان” أو “حرب العبور” وما كان أعظمه لو حفظ ولم يهدر على عتبة البيت الأبيض طلباً لـ “السلام الإسرائيلي” المضمون والمعزز بالرخاء الأميركي الممول بالبترو – دولار العربي.
وللمناسبة فإن أنور السادات هو الاسم الأبرز بين أسماء المسؤولين عن “حروب لبنان” المتعددة، وعن الدماء الغزيرة والعزيزة التي أريقت فيها، بل لقد كان أحد الساعين والعاملين لتجديدها كلما هدأت نارها، أو كادت تخمد،
ومن منا لا يذكر تصريحات السادات الشهيرة “المبشرة” بأن “دماء كثيرة ستسيل بعد في لبنان!”، بينما كل اللبنانيين والآخرين يعيشون في ظل الهداة حلم الاطمئنان إلى الغد، مفترضين إن الأيام السود قد مضت وانقضت إلى غير رجعة؟!
ومن منا يستطيع تجاهل أو إسقاط ذلك الترابط الدقيق بين حركة السادات، وفي اتجاه الصلح المنفرد مع إسرائيل وتفجر الأوضاع في لبنان، مجدداً، وفق روزنامة سحرية، لا ندري هل أعدها كيسنجر منفرداً أم شاركته في إعدادها سائر الإسرائيليين وأعداء لبنان ومصر وبقية العرب؟!
وليس في هذا الكلام “استحضار” الغائب، بل إن السادات، بما فعله وخلقه في واقعنا يكاد يكون الحاضر الأكبر في القاعات التي تجري فيها المفاوضات من أجل إخراج قوات الاحتلال الإسرائيلي من لبنان.
بل إن السادات حاضر في المفاوضات مرتين: مرة داخل الوفد الإسرائيلي، بقوة ما قدمه وما وفره لإسرائيل من ميزات إضافية للتفوق. ومرة في ذهن المفاوض اللبناني الذي نفترض أنه مسكون بالخوف من مغبة الانسياق في نهج السادات الذي بدأ – في أبرأ التقديرات – مغامرة مجنونة وانتهى صفقة قمار خاسرة على المستويات جميعاً، الشخصي والوطني والقومي وصولاص إلى التاريخ!
وإذا كان نهج السادات الاستسلامي، المبارك أميركياً والمستثمر إلى أقصى حد إسرائيلياً، لم يقدم للبنان في الماضي إلا الحرب الأهلية بكل ما تضمنته من فذلكات للاقتتال وتبريرات للفتن والتدمير والتخريب، والضياع عن مصلحة الوطن وأبنائه، فإن نتائج ذلك النهج لن توفر في الحاضر إلا البؤس والشقاء والاذلال والعجز عن اتخاذ أي قرار يحفظ سيادة البلاد أو مصالحها الأساسية.
وهذه مصر ما بعد السادات واضحة وكاشفة، وناطقة بخلاصة التجربة المرة.
فبعد خمس سنوات ونيف من “مبادرة السادات”، وبعد حوالي أربع سنوات من التوقيع على اتفاقات كامب ديفيد، يعكس واقع مصر الاقتصادي والاجتماعي كارثة قومية حقيقية، أما واقعها السياسي فيعكس أزمة جدية وخطيرة تهدد النظام وأهله لأنها تحرمهم من قيمة مصر ووزنها الهائل وقدرتها غير المحدودة على الفعل في محيطها.
وإذا ما تجاوزنا إعدام السادات نفسه على يد شبان لا شك في إيمانهم ولا في مصريتهم، ولا في إخلاصهم لمعتقداتهم التي كانت “الدولة” في مصر تستهين بتأثيرها على الناس، فإن واقع خليفته حسني مبارك يستحق وقفة تأمل لاستخلاص الدروس والعبر.
-على الصعيد الداخلي: وجد حسني مبارك نفسه أمام واقع اقتصادي مفجع وصفه أكثر “الخبراء” أكاديمية وممالأة للأميركيين بأنه “كارثة قومية” وبأنه يذكر بوضع مصر أيام الخديوي اسماعيل و”صندوق الدين”.
فلا الوعود الأميركية بالرخاء نفعت ، ولا أمطرت السماء ذهباً، ولا خير العرب النفطيين أغرق البلاد.وظلت تلك المليارات التي ملأت الصفحات الأولى في الصحف المصرية (إياها) حبراً على ورق ومجرد أوهام لا تنفع في تبرير الخيانة ولا في ادعاء الحرص على مصلحة الوطن.
وبغض النظر عن الفساد والفاسدين الذين يقف بعضهم الآن في قفص الاتهام، وبينهم أسرة السادات نفسه، فإن مصرتعاني أزمات حادة وخانقة، بين أمثلتها الصارخة غلاء الرغيف وتناقص (بل اختفاء) الفول وما ماثله من أكلات شعبية وتزايد الفئران التي تلتهم المواسم والمحاصيل الزراعية وتفجر المواسير بما يعطل المواصلات جميعاً، السلكية منها واللاسلكية وصولاً على حركة المرور.
-على الصعيد العربي: لم تستطع مصر، بكل وزنها وتاريخها ودورها، وبكل ما قدمه رئيسها (الجديد) من إعلان عن نواياه الحسنة، أن ينشئ علاقة علنية و”مشروعة” ومعترف بها إلا مع أنظمة كانت أصلاً مع السادات في “مبادرته” وفي فعلته بتوقيع الصلح المنفرد.
حتى السعودية وإمارات الخليج التي ارتضت إبقاء خط مفتوح يتمثل بزيارات سرية لبعض الموفدين، واتصالات محدودة في المناسبات، ما زالت تتردد وتفرض شروطاً، تبدو في نظرمبارك مسكوبية، للجهر بوقائع الاتصال ورفع مستواه إلى زيارات علنية متبادلة ولقاءات قمة.
أكثر من هذا: إن بعض الحكام العرب ممن كانوا وافقوا تحت الضغط الأميركي (والإسرائيلي ضمناً) على ترتيبات للقاء مع الرئيس المصري قد اضطروا في اللحظات الأخيرة إلى تجنب المغامرة بالاعتذار المحرج.
وعلى سبيل المثال نكتفي بالإشارة إلى واقعتين:
*الأولى – إن الملك حسين قد عدل في اللحظات الأخيرة عن الذهاب إلى عمان حيث كان يفترض أن يلتقي الرئيس المصري، بضيافة السلطان قابوس. ولقد أصيب مبارك بخيبة أمل مريرة. نتيجة هذا التراجع الملكي، خصوصاً وإنه لم يبلغ به إلا بعدما كان قد اتخذ طريقه بالفعل إلى مطار القاهرة وسط الزفة الإعلامية المعهودة، والمبالغ فيها هذه المرة نظراً لدلالاتها كخرق للحصار العربي، على مصر ما بعد كامب ديفيد، وبافتراض أنها “المنعطف” الذي سيسقط انفراد مصر من بين “دول الطوق” في الخروج من ساحة العمل القومي والإقداع على التصرف غير المشروع بالقضية الفلسطينية.
*والثانية – إن حاكماً لإحدى الإمارات العربية قد اعتذر عن عدم استقبال الرئيس المصري، قبل شهور قليلة، برغم إن الزيارة العتيدة كان يفترض أن تتم ضمن “طابع اجتماعي”،
ذلك إن “الأمير” كان يعالج نفسه في بلد أوروبي، وكان الرئيس مبارك يريد أن يضمن برنامج جولته على بعض العواصم الأوروبية، زيارة خاطفة إلى حيث يعالج الأمير النفطي، تاركاً للمضيف المريض أن يقرر الإعلان أو عدم الإعلان عن ذلك… لكن الجواب جاءه على شكل اعتذار رقيق!
والوقائع على هذا الصعيد أكثر من أن تحصر، وليست في مصلحة الرئيس المصري، قطعاً، وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية للذين يتبرأون منه أو يهربون من أي علاقة معه، برغم الضغط الأميركي عليهم.
-أما على الصعيد الدولي، فقد واجهت مصر مبارك حرباً أميركية شعواء لأنها حاولت أن تعيد وصل ما انقطع بينها وبين دول عدم الانحياز، وكانت زيارة واحدة ليوغسلافيا، ومشاركة شبه رمزية في نشاطات هذه الحركة، وبعض التصريحات عن استمرار مصر فيها، كافية لأن تشعل نيران الغضب الأميركي ولأن تتوالى التهديدات بقطع المساعدات وإعادة النظر في الموقف من حسني مبارك، بل والبدء بحملة تشهير مباشرة مسته شخصياً عبر بعض أقاربه وأنسبائه.
كذلك واجهت مصر مبارك ضغوطاً وتهديدات قاسية لأنها فكرة مجرد تفكير، بعقد صفقة سلاح مع فرنسا (وهي الحليفة للولايات المتحدة)، وسمع كبار المسؤولين في القاهرة، وكذلك في باريس، كلاماً قاسياً عطل التنفيذ، مبقياً الجيش المصري في أزمة فنية وتكنيكية تضاف إلى أزمته الوطنية الخانقة التي بلغت ذروتها خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان.
-يبقى الصعيد الإسرائيلي، وهو بغير حاجة إلى كلام، إذ يكفي التذكير بقصة “طابا” حتى تتكشف حقيقة السياسة الإسرائيلية تجاه مصر التي أعطاها حاكمها السابق ما أعطاها مما يشل ويعطل فاعلية خليفته، هذا إذ افترضنا – بحسن الظن – إنه يريد أن يغير وأن يعود بمصر إلى موقعها ودورها الطبيعيين في قلب حركة نضال أمتها العربية.
إن هذه الصورة “المصرية” يجب أن تكون – بوقائعها الكاملة والمفصلة – في ذهن المفاوض، بل الحاكم اللبناني وهو يجلس إلى الإسرائيلي برعاية “الشريك” الأميركي، محاولاً الحصول على جلاء قوات الاحتلال بأقل ثمن ممكن.
لقد أعطى السادات أكثر مما تتوقع إسرائيل ذاتها فلم تنل مصر لا السلام ولا الرخاء، بل هي خسرت نفسها ودورها القيادي العربي، واقتصادها الوطني وخسرت العرب (إلا بعض أتفه حكامهم).
وأعطى مبارك أقل مما تريد وتتوقع إسرائيل فلم يتكرم عليه الإسرائيليون بالتنازل عن بعض أرضه (طابا)، ولم ينفعه الشريك الأميركي الكامل كثيراً في هذا المجال، لأن الأوراق المصرية جميعاً كانت في سلة واشنطن… وكذلك لم يعد إليه العرب متلهفين، واعتذر “أميرهم” المريض عن عدم استقباله!
هذا عن مصر، فكيف بلبنان الأصغر والأضعف والمثخن بالجراح؟
المؤكد إن ليس لدى تل أبيب ما تنفع به لبنان فهل ترى لدى واشنطن، ما ينفعه؟! وهلى ترى العرب مستعدين لتقديم ما يستطيعون؟
غداً سيكون حديثنا عنهم.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان