لا يجوز أن تمر هذه الحملة الظالمة التي تشنها بعض الدوائر في فرنسا والفاتيكان على “الشرق” بمسلميه ومسيحييه مرور الكرام، وأن يسلم الناس بمنطقها المضلل وأغراضها الخبيثة وكأنها تستهدف حقاً “حماية الوجود المسيحي في لبنان”.
فأهل لبنان، واهل اللبنانيين من العرب، احرص على أنفسهم وعلى ديارهم، على حاضرهم ومستقبلهم من “الغريب” كائناً من كان هذا “الغريب” وكائناً ما كان دينه… هذا إن كان له دين!
والموضوع، من قبل ومن بعد، سياسي وليس صراعاً بين الأديان، وليس مقبولاً تحويله إلى حرب صليبية معكوسة ضماناً لدقة التمويه والتحوير وتمرير الأغراض الأجنبية الخبيثة.
ففي ضوء”المبادرات” المتوالية التي تصدر عن مراجع مسؤولة في الفاتيكان وفرنسا يبدو الوضع في لبنان في صورة مذبحة منظمة للمسيحيين في لبنان والشرق دبرها وخطط لها “المسلمون” من اللبنانيين وسائر العرب،
وهذا التباكي الغربي على الوجود المسيحي في لبنان والشرق، والدعوة المتلهفة إلى توفير الضمانات لاستمراره قبل شهر أيلول وبداية العام الدراسي، وتضخيم الحديث عن هجرة المسيحيين والمبالغة في أرقام المهاجرين منه (مع إسقاط أي ذكر لهجرة المسلمين وللأسباب عينها).
كل ذلك يندرج في سياق الفذلكة السياسية لتبرير استعادة الغرب “الصليبي” حق الادعاء بأنه حامي الوجود المسيحي في الشرق، وبالتالي فهو شريك في كل قرار مصيري باعتباره “الوكيل الشرعي” لطائفة أو طوائف من أهل المنطقة.
في الأخلاق يمكن اعتبار هذه السياسة الصليبية التي تتحدث عن المسيحيين في الشرق كعنصر توازن أو كلون، إهانة للشرق كله بمسلميه ومسيحييه، ولاسيما للمسيحيين من أبنائه.
أما في السياسة فالأمر أخطر بكثير، وهذه بعض الأسباب:
*أولاً – إن المنطقة العربية كلها، بمسلميها ومسيحييها، بالأكثرية وبالأقليات فيها من ضحايا الغرب، وهي تحمل حتى الساعة تشوهات مدمرة تهدد سلامتها وأمنها وحقوقها وطموحاتها المشروعة إلى التحرر السياسي والاقتصادي والثقافي الخ.
وحين يسبغ الغرب “الصليبي” حمايته على الأقليات فإنما يكون بصدد حماية مصالحه وتأمينها على حساب هذه الأقليات (والأكثرية)، لأنه بادعاء حمايتها لا يفعل غير توريطها وسحبها بعيداً عن أهلها واجتذابها إلى خارج أرضها، ومن ثم تهديدها في وجودها ذاته.
*ثانياً – هذه المتاجرة الغربية الرخيصة بدماء المسيحيين هي أهم مصادر الخطر على المسيحيين.
إنها تصورهم وكأنهم “جالية أجنبية” في وطنهم،
وتحاول التعامل معهم وكأنهم “أغراب” عن أهلهم وارضهم.
وهي تسقط تاريخهم وهويتهم القومية ودورهم الحضاري كجزء من أمتهم ومن داخلها، وليس من خارجها.
وهي تتعاطى معهم وتريدهم أن يتعاطوا معها وكأنهم بعض “رعاياها في ما وراء البحار”، متجاوزة حقيقة إنها لا ترى فيهم، فعلياً، إلا “بعض أولئك العرب الهمج والمتوحشين”.
*ثالثاً – إن العرض الأول لتهجير المسيحيين من لبنان غربي، مثله مثل العرض الأخير.
وإذا كان الموفد الأميركي دين براون قد خرج في “عرضه” على الدبلوماسية وأصولها، فإن العرض الفاتيكاني المعدل فرنسياً يستخدم التهويل الفظ للوصول إلى الغرض ذاته وهو ترويع المسيحيين ليفترقوا أكثر وليبتعدوا أكثر عن سائر أهلهم في لبنان والمنطقة والتمكين لدخول “الغرب” شريكاً مضارباً بين الأخوة في الوطن والأرض والتاريخ والمصير.
*رابعاً – ثم إن هذا العرض ابتزاز رخيص للبنانيين وسائر العرب.
فليس القصد من “المبادرات” حماية الوجود المسيحي بل حماية حق التدخل الغربي في الشؤون الداخلية للأقطار العربية، باستغلال الأقليات الدينية ومخاوفها التي يمكن إهاجتها كلما هدأت، ولو بافتعال أو تدبير بعض المذابح أو الاغتيالات أو الحروب الصغيرة.
*خامساً – … فإذا ما لوحظ توقيت هذه “المبادرات” تكشفت أغراضها بغير قناع،
فالمبادرات، تتولى في لحظة سقوط المراهنات على الخارج، وعلى إسرائيل أساساً، وسقوط الميليشيات، وعودة الروح إلى فكرة الدولة وانتعاش النظام (الطائفي)، وتجديد الحكم (الماروني) للجمهورية القديمة الجاري ترميمها الآن.
أي إن المبادرات نشطت في اللحظة التي كان يفترض فيها أن يعود الجميع إلى حضن الدولة (والشرعية) باعتبارها أهم الضمانات لوجود لبنان بمسيحييه ومسلميه، وللمسيحيين أساساًز
وبدل أن تصب المبادرات في مجرى تقوية فكرة الدولة وقضية وحدة الشعب توجهت إلى سلاح تجزئة الشعب بحسب الانتماءات الدينية مما يفاقم من ضعف فكرة الدولة الجامعة.
*سادساً – غني عن البيان إأن الكل يعرف كم وظف الدين كعامل تأجيج لنيران الحرب الأهلية في لبنانز
.. الدين بداية ثم الطوائف وصولاً إلى المذاهب والملل والشيع والنحل الخ…
وحتى اليوم فإأن كل تظهير للعامل الديني له وظيفة محددة هي طمس الجانب السياسي، الوطني والقومي، للصراع المحتدم حول طبيعة النظام وصيغة الحكم في لبنان وموقعه ودوره في النظام العربي، واستطراداً في النظام الإقليمي القائم في المنطقة.
ودخول فرنسا والفاتيكان على خط “حماية المسيحيين” بهذه الطريقة الفظة إنما يستهدف حماية أسوأ ما في النظام الطائفي الذي يمكن اعتباره مصدر الشرور على اللبنانيين جميعاً، منذ قيامه في ظل الانتداب الفرنسي (بل وقبل ذلك، في ظل نظام الامتيازات الأجنبية التي فرضها الغرب – الصليبي على السلطنة العثمانية)، وحتى الطور الحالي من أطوار الحرب الأهلية والذي يتمثل في بعض جوانبه بالاقتتال الماروني – الماروني.
وللمناسبة فإن هذا الاقتتال الماروني – الماروني هو الوجه الآخر للصراع على النفوذ داخل المنطقة عموماً وداخل لبنان خاصة وداخل ا لمسيحيين فيه على وجه التحديد بين الغريبن: الغرب الأميركي (البروتستانتي) والغربي الفرنسي – الفاتيكاني (أي الأوروبي – الكاثوليكي).
إن هذا التباكي على الوجود المسيحي في الشرق إنما ينفي التهمة عن الجاني الحقيقي ويرميها على ضحيته الأخرى.
إنها محاولة خبيثة لتبرئة إسرائيل والغرب عموماً، من دماء اللبنانيين بمسلميهم ومسيحييهم، وإدانة للعرب، واللبنانيين منهم، ظلماً وعدواناً.
ثم إنها محاولة خبيثة لتسويق أردأ “القيادات” المسيحية، محلياً، وفرضها “كممثل شرعي وحيد” للمسيحيين في لبنان، وبالتالي فرض “قيادات” إسلامية مماثلة في الرداءة ونقص الوطنية والارتهان للأجنبي بذريعة “حماية الوجود” وتأمين الذات ضد خطر الذبح على الهوية.
إنها محاولة لذبح هوية لبنان واللبنانيين،
وما ينجح في لبنان يسهل تعميمه من بعد على المنطقة!
وماذا ينفع الإنسان لو ربح “الغرب” وخسر نفسه؟!
… مع التمني بأن تكون بلاغة الأمير سعود الفيصل قد نفعت في تغيير سياسات فرنسا والفاتيكان، (والطليان) وطمأنت المسؤولين هناك إلى حرص العرب والمسلمين جميعأً على استمرار “اللون” المسيحي في الشرق المصاب بلوثة التعصب وعمى الألوان!
فإأن كان الأمير قد قصر أو سها أو نسي فالأمل في أن تكمل بلاغة الأخضر الإبراهيمي هذه المهمة المقدسة عند الذين يصرون على إقناعنا – بالقوة – إنهم أحرص علينا منا، وإنهم إنما يحاولون إنقاذنا من .. أرضنا وتاريخنا وحضارتنا وبشرتنا السمراء!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان