للأسطورة عيدها وعطلتها المقدسة، فالديناصور يرتاح في كهفه السبت، فارضاً على عالم أواخر القرن العشرين أن يلبد جامداً معه في قعر الدنيا حتى غروب الشمس “اليهودية”.
ولا بأس أن يتوقف المؤتمر المنعقد لتحقيق “وعد جورج بوش” لمناسبة الذكرى الرابعة والسبعين “لوعد آرثر بلفور”، بضع ساعات، لاستعادة التحولات في الفترة بين الوعدين اللذين يشكلان محطتين مهمتين في الصراع العربي – الإسرائيلي فوق أرض فلسطين وانطلاقاً منها وعودة إليها.
لقد حافظ اليهود – الإسرائيليون بالقوة على الأسطورة، وأعجز العرب الضعف في حماية الحقيقة… وها هي أسطورة قوة اليهود – الإسرائيليين تحمي منطقهم السياسي المتهالك، وتفرض على العالم أن يسمع من إسحق شامير – الذي لم تعرف عنه الثقافة والدقة العلمية!! – إعادة مشوهة ومبتسرة لتاريخه وللعلاقات بين أممه فلا يجرؤ على الاعتراض ويكتفي بتسجيل بعض الاستدراكات على الهامش، وعلى طريقة المهربين!
وبقدر ما كان المتحدثون العرب أمام مؤتمر مدريد ناجحين في عرض الظلامات والجراح والمآسي التي أحلقتها ببلادهم وبأهلها الاعتداءات الإسرائيلية، فإنهم كانوا يؤكدون – بالدم المسفوح – أسطورة القوة عند عدوهم الجبار!
كانوا ضحايا نموذجيين لسفاح نموذجي،
لكن النتائج السياسية للجريمة لا تقررها الأخلاق ولا تلغيها مواعظ الناصحين والمبشرين والمخدرين من مغبة غضب الله.
كان الضعف المستشري في الواقع العربي هو أعظم نقطة ضعف في الخطاب السياسي للمندوب العربي في مدريد.
لولا هذا الضعف لما كانت مدريد ومؤتمرها، فمدريد هي الخيار الأوحد أمام العرب وليست الخيار الأمثل، بل هي المخرج الذي قد يحفظ ما تبقى من ماء الوجه وليس خياراً لحفظ الأرض أو لاستعادة ما ضاع منها.
ولو كان العرب يملكون من القوة ما يحتاجه الخيار الآخر لبدّل الإسرائيلي لغته وعدة الشغل من خزان الأساطير التلمودية والتوراتية الحافل بما ينفع وما يصلح لكل مكان وزمان.
ماذا تنفع الكلمات إن لم تكن قوتها مرتبطة بعدد الطائرات والصواريخ والدبابات والمدافع وبمستوى الدخل القومي والفائض في ميزان المدفوعات والموارد الاقتصادية لبلد المندوب المعني؟!َ
ليست الشكوى، كائنة ما كانت البلاغة فيها، في مثل قوة التلويح بالحرب لاستنقاذ الحق المضيع أو استعادة الأرض المغتصبة… وقد اكتشف أسلاف المندوبين إلى مدريد هذه الحقيقة منذ مئات السنين فلخصوها على لسان شاعرهم العظيم أبي تمام بجملة مفيدة “السيف أصدق إنباء من الكتب”!!
وعرض المزدهي بانتصاره على مجموع العرب، المتناوبين على التشكي من ظلمه وتعنته وإرهابه، مختلف جداً عن عرض المكسور بهزيمته والمحتمي بالشرعية الدولية لأنه لا يملك حماية غيرها.
فلا شامير، الآتي إلى مدريد بكل نياشين انتصاراته العسكرية على العرب، يعرض السلام فعلاً، وسيظل عرضه أقرب إلى طلب التسليم بشروطه القاسية مهما لطف صياغاته لها،
ولا المندو العربي المحبط والمرور والمدرك إنه إنما يفتقد الحجة التيلا تدحض (أي القوة في مواجهة القوة)، يمكنه أن يفرض شروطه للسلام، وإن كان قادراً بعد علىرفض الفرض الإسرائيل، مستفيداً من التحولات التي ولدت هذا الفارق بين الوعدين: وعد بلفور 1917 ووعد جورج بوش 1991.
فـ “وعد بوش”، الصادر بعد الهزيمة العربية الساحقة في “حرب الخليج”، هو الذي كبح جماح إسحق شامير ومنعه من استخدام قوته العسكرية لفرض شروط الاستسلام على العرب المأخوذين بجريرة جريمة صدام حسين مع إنهم – بمجملهم – ضحاياها.
و”وعد بوش” ذاته ساعد العرب في التغطية على عجزهم عن الذهاب إلى الحرب ضد إسرائيل، والاندفاع إلى القبول بعرض “السلام” والاستنجاد بالشرعية الدولية في طبعتها الأميركية الجديدة، القادرة على تنفيذ ما شاءت من قرارات مجلس الأمن.
ولقد خبر العرب، وبدمائهم، مدى القدرة الهائلة لهذه الشرعية الذي يأعاد إليها الشباب الغابر بطل النظام العالمي الجديد جورج بوش.
المسألة هي: كيف العرب في بلادهم، في مواجهة المشروع الإسرائيلي، وليست في مدى جدارة مندوبيهم في التصدي للمندوب الإسرائيلي في مدريد.
حتى في مدريد ليس المشهد العربي مريحاً، وليس كريماً ولائقاً ومصداقاً لحجج المندوبين العرب الذين أثبتوا كفاءة عالية بمجملهم، من فاروق الشرع إلى حيدر عبد الشافي إلى فارس بويز… وصولاً إلى عمرو موسى وكامل أبو جابر.
لم يسقط منهم أحد، ولم يمكنوا منهم الخصم، بالرغم من التوتر الناجم عن الاستفزاز والصلف الشاميري الكريه.
لكن الفصاحة لا تعوض انتقال مصر إلى موقع “الوسيط”، المحيّد بقوة القهر، والباقي موقعه في الصراع شاغراً، بل إنه قد تحول إلى عبء إضافي على رفاق السلاح القدامى الذين تركهم أكثر ضعفاً وأعظم عجزاً بعد خسارته.
كذلك فالفصاحة لا تغطي الصورة المعيبة لجلوس “عربيين” كشاهدي زور، خارج الطاولة – الميدان، بينما أخوتهم يخوضون “حرب المؤتمر” التي لا تقل خطورة بنتائجها عن المواجهات العسكرية – مع “العدو القومي” لجميعهم.
وكانت كاريكاتورية إلى حد الإغاظة صورة ذينك العربيين بالكوفية والعقال في خلفية الصورة، وراء الأميركي وكاحتياط له أو قوى ضغط في يده على الموقف العربي الذي كان بأمس الحاجة إلى من يعززه وليس إلى من يخصم منه قدرات الجزيرة والخليج بكل ثقلها… كمصالح أميركية.
لقد أدت الفصاحة مهمتها، فكسبت الجولة الأولى بالنقاط.
لكن حماية هذا المكسب المحدود، على أهميته السياسية ودويه الإعلامي، تتطلب التوكيد على وحدة الموقف العربي، خصوصاً وقد أثبتت سوريا كفاءة ملحوظة في تقديم نفسها مرجعية مقبولة ومطلوبة من الفلسطيني، صاحب القضية، ومن اللبناني موضوع الابتزاز الإسرائيلي المفتوح،
ليس أقوى من العرب، نظرياً، خصوصاً وإنهم يملكون جبالاً من الوثائق الدامغة والبيانات القاطعة والإثباتات التي لا يمكن دحضها. تكفي أسماء شهدائهم وجراح أطفالهم ونسائهم والشيوخ، يكفي جلال البيوت المنسوفة بالذكريات فيها وعرق الزنود السمر وألأحلام الصبايا ولعب الأطفال المهجورة لليتم.
لكن مصدر القوة الباقي هو وحدة الموقف من العهدو، وهي وحدة يطلبها العالم كله، بل لعله بحاجة إليها للانتقال من مرحلة التشهير بالإرهاب إسحق شامير إلى مرحلة المحاكمة لإسرائيل كلها التي سيبقى شامير رمزها طالما استمرت تستوطن الأسطورة وتفرضها على العالم كحقيقة نهائية وثابتة، بقوة السلاح.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان