هو هو “الوضع العربي”. على صورته ومثاله، أقله في الشكل. تحسبه منطفئاً بارداً، فيفاجئك بحرارة كامنة تغطيها طبقات من المرارة المعتقة، وتحسبه قانعاً في يأسه المريح، فيباغتك إحساسه “الواقعي” الذي لا يلغي التمني ولكنه لا يحوله إلى أوهام ثم يراهن عليها… وكأي دبلوماسي محترف ومتمرس فإن أثقال تجربته الغنية تجعله متشككاً وباحثاً دائماً عن “السر” وعن الجواب المخفي بعناية للسؤال المطروح.
بكلمات هامسة تكاد تتماهى مع الصمت يلخص الأمين العام لجامعة الدول العربية، الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد اللحظة العربية الراهنة: – العرب ذاهبون إلى السلام، قد لا يكون ذلك خيارهم تماماً ولعلهم مكرهون عليه، لكنهم لا يولونه الأهمية المطلوبة ولا يعدون أنفسهم لمقتضياته، خصوصاً وأنها قد تكون قاسية.
… من قال أن الواقعية هي الاستسلام؟! أبداً… فالمفاوضات أيضاً هي نوع من الحرب، وهي تتطلب إعداداً واستعداداً وكفاءة وروحاً معنوية عالية لتتمكن من المواجهة. “الفهلوة” لا تفيد، وإضعاف الصف العربي ليس السبيل لتقوية الذات. والتلهف على أي حال، واستعجال الأمور، والتهاون في بعض المسائل باعتبار أنها من “التفاصيل”، كل ذلك يجير لمصلحة “العدو”، إذا شئت، أو الطرف الآخر.
تنطق التجربة بلسان عصمت عبد المجيد: – لقد امتدت مفاوضاتنا مع الإسرائيليين حول طابا ومساحتها كيلومتر مربع واحد، أربع سنوات تقريباً، لم نتنازل، ولكننا بالمقابل لم “نحرد” ونقطع المفاوضات. القطع لا يحتاج إلى شجاعة. ليس أسهل من نسف أية مفاوضات، بكلمة واحدة ينتهي الأمر. لكننا كنا مهتمين باستعادة أرضنا، ولا بأس إن امتد الوقت، المهم النتائج، وعلى سبيل المثال، فلقد استهلكنا حوالي أربعة شهور على لفظة واحدة في شرطية التحكيم حول طابا. وفي النهاية كان ما أردناه، ولم نعتبر الشهور الأربعة خسارة.
… نعم ما زال للجامعة العربية دور ووظيفة. إنها مؤسسة تدلل على حضاريتنا. هي الإطار الأفضل لاتفاقنا كما لعلاج خلافاتنا، من هنا إلحاحنا على محكمة العدل العربية. لماذا نذهب بخلافاتنا إلى مُحكم أو محكمة عدل أجنبية، بينما لدينا القانونيون الكبار، وعندنا القدرة على حل خلافاتنا في ما بيننا ومن دون أن ندخلها في متاهات دولية؟!
….. حكاية إعادة النظر في ميثاق الجامعة تنطلق من دواع عملية،
والحقيقة أن الأخذ بمبدأ الإجماع كان تلبية لمطلب لبناني تمت الموافقة عليه غداة تأسيس الجامعة، في العام 1945 (بروتوكول الإسكندرية). كان لبنان يشعر أنه الأضعف، وإنه قد يفرض عليه (بالأكثرية) ما لا يرضاه، فطلب أن يراعى وضعه واستجيب لمطلبه.
آنذاك كان عدد الدول العربية سبعا. أما اليوم ففي الجامعة 22 دولة، والإجماع يكاد يكون مستحيلاً، وجعله شرطاً دائماً يعطل عمل الجامعة، إذ أنه يعطي كل دولة صغرت أم كبرت حق الفيتو. والفيتو أقصر طريق إلى الشلل. لذا فلا بد من الأخذ بمنطق الأغلبية (أكثرية الثلثين) والأقلية. ولا أظن أن أية دولة، حتى لبنان، يمكن أن تخاف الآن من أن يفرض عليها ما لا ترضاه بالتصويت.
…. أما حكاية المطالبة الأميركية برفع المقاطعة فبسيطة: زارني ، بداية هذه السنة، وزير التجارة الأميركي (براون)، وهو رئيس الحزب الديموقراطي، وأنا أعرفه شخصياً وأتابع نشاطاته، خصوصاً وإن لونه لم يمنعه من لعب دور بارز في النادي السياسي الأميركي. ولقد صارحني براون: “- ليس من حقنا، طالما أن بعض الدول العربية ما تزال في حالة حرب مع إسرائيل أن نطالبها برفع المقاطعة المباشرة. لكننا نجد أنه بات ضرورياً رفع المقاطعة غير المباشرة (من الدرجتين الثانية والثالثة)… خصوصاً وأن مؤتمر الدول المانحة لاتفاق غزة – أريحا قد أقر تقديم حوالي الملياري دولار للبنية التحتية في المنطقة التي ستتمتع بالحكم الذاتي من أرض فلسطين المحتلة. وغير معقول أن ندفع المال ثم تمنع شركاتنا من المساهمة في تنفيذ هذه المشاريع بذريعة أنها مدرجة على لوائح المقاطعة العربية…”.
على أن ما استرعى انتباهي أن الفلسطينيين لم يتقدموا بمثل هذا الطلب، وهم المعنيون ببناء بلادهم..
في أي حال، قلت لبراون أن أقصى ما أستطيعه هو أن أبلغ مجلس الجامعة، عند انعقاده في آذار، بما سمعته منه، ليقرروا فيه ما يرونه.. في اليوم التالي سافرت إلى دمشق حيث كان يعقد مؤتمر وزراء الزراعة العربية برعاية الجامعة، وفيها قرأت تصريحات لبراون فيها شيء من التحرير لما أبلغته. ولقد أوضحت الأمر، فوراً. ثم جاءت مذبحة الحرم الإبراهيمي فتغير الوضع تماماً، ولم يعد ممكناً إثارة هذا الموضوع بالقطع، وهذا ما وافقني عليه الوفد الأميركي المشرف على المفاوضات العربية – الإسرائيلية بقيادة دنيس روس، وافترض أنه ما لم يحدث تقدم حقيقي في العملية السلمية فسيكون صعباً إثارة هذا الموضوع واستصدار قرار من الجامعة.
… صحيح أن بعض الدول العربية، ولأسباب ذاتية تخصها، قد تكون نتيجة ضغط من الخارج، أو رغبة في تسجيل السبق على غيرها، أو المكايدة، حاولت وتحاول التعجيل في هذا الأمر، لكن ذلك مرتبط بتقدم المفاوضات.
ونعود إلى المفاوضات بذاتها فيقول الرجل الذي استدعي من الأمم المتحدة ليقود أول جولة مع الإسرائيليين في فندق مينا هاوس بالقاهرة العام 1977:
– المفاوض الإسرائيليصعب، وشعوره بالتفوق يمنحه قوة إضافية، لكن استرجاع الحقوق الوطنية ليس مستحيلاً. اسألوني فأنا خبير بهم. ويقتضي الأنصاف أن نشهد للمفاوض السوري بأنه كفوء وبأنه قد أعد نفسه جيداً لهذه “الحرب”. وفي التفاوض عليك أن تحشد أفضل كفاءاتك (العلماء، رجال القانون، المؤرخون، علماء الاجتماع، الخبراء العسكريون، الجغرافيون، رجال الفكر والرأي.. الخ)..
… يقيني ثابت بأن الجولان بكامله سيعود إلى سوريا. لا مجاللأن تتهرب إسرائيل من إعادته إذا ما كانت تريد السلام فعلاً. وفي أي حال فإن رابين قد وصل إلى السلطة لأنه قدم نفسه كرجل السلام بديلاً من رافض السلام شامير. لكن القوى التي تجهر الآن بعدائها للسلام، داخل إسرائيل، مؤثرة وفعالة، فهي تضم إلى الليكود وسائر الأحزاب المتطرفة دينياً وسياسياً الجيش والمستوطنين. وواشنطن مطالبة بأن تلعب دوراً أكثر حيوية وأكثر فعالية لكي تتقدم المفاوضات.
… لست أخاف من مشاريع إسرائيل الشرق أوسطية. لدي مشروعي الخاص للسوق الشرق أوسطية، ولا أظن أن إسرائيل ستستطيع ابتلاع هذه المنطقة، وإلغاء الكل لكي تفرد هيمنتها عليها.
ليس مهزوماً، وإن كان قد اكتوى بنار الهزيمة: “فقط بعد حرب أكتوبر – تشرين – ، وبعدما استعاد المصري إحساسه بالكرامة، وبأنه قادر على إذلال الغطرسة العسكرية الإسرائيلية، وبعدما اقتحم الجيش المصري (والجيش السوري طبعاً) أسطورة الجندي الإسرائيلي الذي لا يقهر، بتنا قادرين على التفاوض. وكذلك فلولا الانتفاضة المجيدة للشعب الفلسطيني لما استطاع ياسر عرفات أن يفاوض. ولكن مع الأسف لم تتم الأشياء كما كان يفترض أن تكون.
لعله الإحساس المكين عنده بالتاريخ يحصنه ضد الانهيار. لعلها مصر. لعلها خلاصة التجربة بأن حقائق الحياة تفرض نفسها في النهاية.
في أي حال فليس عصمت عبد المجيد رمزاً للاستسلام.. خصوصاً وإنه لا يدعي أنه بطل التحرير.
وبقية الحديث للحفظ، لأنه شخصي الطابع، ولأنه يثير المزيد من الأحزان حول الوضع العربي من خلال المحنة الفلسطينية الجديدة، التي “يقودها” أيضاً ياسر عرفات.
ولا يحتاج اللبناني خاصة لمزيد من المحن، لاسيما اليوم وبينما “تهل” الذكرى العشرين لتفجير لبنان والقضية العربية (فلسطين) بالحرب الأهلية التي تكاد تكون سمة الوطن العربي الآن..
فالنزيف العربي مستمر، داخل فلسطين وخارجها، والمخاطر تتفاقم، وعصمت عبد المجيد “وجامعته” بين ضحايا النزف الذي ييسر لإسرائيل المزيد من الانتصارات، ويغرقنا في نمط آخر من الواقعية لا اسم له إلا الاستسلام.
وها هو 13 نيسان آخر “فلسطيني” ولا انسحاب ولا تحرير!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان