اللبنانيون “يتفرجون” على الانتخابات أكثر مما يخوضون غمارها.
لذلك فالففضول يغلب على “المشاركة”، خصوصاً وإنهم لا يتوقعون منها “أنقلاباً” ، هذه التي يطلب منها “شرعنة” الوضع القائم وتثبيته.
كل العدة الانتخابية موجودة، بشكل عام، إلا الانتخابات.
صور المرشحين أكثر من صور المطربين، والموسم – الطرب – في عزه، وأعمدة الكهرباء والهاتف باتت مثقلة بأوزان من تحمل وأشكالهم… الملونة!
و”الجولات” تطوف القرى والدساكر، حاملة المرشحين إلى الناخبين في زيارات التعارف والوعود والتعهدات التقليدية،
وحكايا السهرات حافلة بالطرائف الانتخابية، وإن ظل يخيم عليها السؤال الكبير: لمن نعطي صوتنا؟!
برغم الحشد فما أقل من يستحق العناء!
الازدحام شديد والرجال قليل،
و”المعركة” وهمية، كتلك المناورات التدريبية التي تجرى للأغرار من الجنود: البنادق أشبه بالعصي، فإذا أعطوا رصاصاً فبلا ذخيرة، والمدافع تقصف بالصوت من دون قذائف.
المرشحون متشابهون حتى ليصعب التمييز بينهم، بعضهم “قديم” ووجوههم مألوفة لكن “تاريخهم” حافل ومنفر، ومعظمهم “جديد” يغرف من بحر الكلام بلا ضابط فلا يستثير الحماسة، لأن الأذان سمعت من قبل ما هو أفخم عبارة لكن الواقع بقي على حاله من دون تغيير.
إنه لبنان آخر، هذا الذي ترتفع فيه اللافتات المضحكة عن “الحجر والنار” و”صانع الرؤساء” و”مرشح الأطفال” و”مرشد الثروة المائية” ومعطي “الكلمة الأولى للشعب” و”محقق الأحلام” و”أين أم بهاء” وصولاص إلى نجم النجوم: “أنت أو لا أحد”.
فخلف هذه المناظر الكاريكاتورية التي لم تعد تستدر الضحك، تتبدى ملامح الواقع السياسي في لبنان ما بعد الحرب واتفاق الطائف وحكم المصالحة الوطنية وسائر عناوين “الجمهورية الثانية” اليتيمة وسط آبائها الكثر.
لا تعكس الانتخابات حياة سياسية، بل هي تقدم بعض مخلفات الفولكلوري السياسي الذي اختزنته الذاكرة من أيام زمان.
لا المقاطعة دليل معارضة صحية، وبالتالي فليست مصدراً للحيوية ومهمازاً للصراع بين أفكار واتجاهات وقوى تمثل مصالح متعارضة أو متناقضة، وعبر الصراع يولد ويستقر نوع من التوازن بين المصالح والقوى المعبرة عنها،
ولا المشاركة دليل إيمان بالحكم ومنطلقاته (ورموزه)، وبالتالي فهي انتهازية وقنص للفرص في غياب الخصم أكثر منها مواجهة للخصم وفق قانون الصراع وبالوسائل الديموقراطية…
وما يؤخذ على “المعارضة” يمكن أن يؤخذ على الموالاة، فليس للأولى برنامج غير “اللا” مطلقة وبغير نقاش، وليس للثانية من برنامج غير “النعم” مطلقة وبغير تحفظ.
والكل صغير… لم يكبر المعارضون بالرفض، ولا أفادت الموافقة في تكبير الموالين، وإن كانت “نعم” قد جاءتهم بـ “النعم”.
وإنها لمعادلة طبيعية: فخصم الصغير صغير، كما إن صغير الخصم صغير، والمقارنة شخصية لا سياسية، خصوصاً إذا كان المنطلق يفرض التسليم بأن الطرفين سيئان، وإن عليك اختيار الأقل سوءاً.
طبعاً ثمة فروق “سياسية”. لكن بعضها يرتكز إلى الماضي الذي تبدل مع الحاضر إلى الأسوأ، وبعضها الآخر يرتكز إلى الحاضر الذي جاء لينقض الماضي فأعاد الاعتبار إلى أهله… المدانيم من قبل أن يجيء!
وفي ظل الفراغ يتضخم الصغير فيتوهم إنه بات كبيراً، لكنه سرعان ما يرتطم بالواقع فيكابر قليلاً ثم يعترف بصعوبة إنجاز لائحته الانتخابية “لتزايد الضغوط عليه”.
أليس لافتاً أن يعجز “الأقطاب” و”الجبابرة” عن تشكيل لوائحهم وإعلانها، حتى الساعة، اللهم إلا حيث اقتضت ظروف سياسية معينة أن تقوم تحالفات قسرية بين متعارضين لا يجمعهم هدف سياسي أو نهج اجتماعي مشترك وليس بينهم من تراث عقائدي مشترك إلا الخصومة!
وثمة نوعان من “الأقطاب” – ودائماً بالكاريكاتور:
1 – الأقطاب بالسلطة، وهو اكتسبوا حجماً استثنائياً لكونهم “الحكم”، والحكم يختزل التوافق الوطني، والتوافق يعكس الحل والوعد بالسلام الوطني وانتهاء الحرب، ومن هنا صعوبة التصدي له من موقع الاعتراض… إذ سرعان ما تصور المعارضة تآمراً وتجديداً لمناخ الحرب!
2 – الأقطاب بالرفض، والكبر هنا مستعار من الموقف، والموقف طائف أكثر منه سياسي، وصعب جداً ترجمته إلى السياسة في هذه اللحظة، لذا فهو محكوم بأن يظل أقرب إلى الكلمات المتقاطعة، يطلق شعارات رافضة لكن جذرها تقسيمي، فإذا ما حاول المضي بعيداً فقد جمهوره لأن هذا الجمهور – وبرغم اعتراضاته الجوهرية – وحدوي، سيما وإنه قد اكتوى حتى الموت بنار المنطق الطائفي، التقسيمي بالضرورة.
من هنا فإن أخطر ما في الانتخابات إنها تطرح على الناس وكأنها استفتاء على الحكم بكل ما يختزله ويمثله ويرمز إليه.
ومن الظلم أن يحتسب مؤيدو الوفاق والسلام الوطني بعدد المقترعين في انتخابات حررت على عجل، ووفق قانون أشوه، وفي ظروف غير طبيعية.
وسلفاً يمكن القول إن الأكثرية الساحقة من اللبنانيين ستبدو وكأنها ضد الوفاق الوطني والجمهورية الثانية لأنها لن تقترع بالمرة، من غير أن يعني هذا – بالضرورة – إنها في صف المقاطعين إياهم.
إن أصوات الناخبين ستحجب عن المرشحين الحكام وعن المعارضين المخاصمين للحل، على حد سواء.
وبهذا المعنى فالمقاطعة موقف ضد الحكم ومعارضته في آن،
إنها معارضة المفجوعين بهذا الحكم الذين توهموه تجسيداً للحل فإذا به يتحول – عبر ممارساته – إلى مشكلة جديدة تعرقل الحل وتعطله وقد تهدد مسيرته وتفرغه من مضمونه التغييري.
وبسبب من موقفه على ذاته وعدم اطمئنانه إلى تأييد “الجماهير” يكاد الحكم بذاته أن يتحول إلى ردة حقيقية ترجع بالبلاد إلى أسوأ ما عرفه تاريخها السياسي من تشوهات وإفرازات مرضية.
إن رموز الحكم وأنماط تحالفات رجالاته الانتخابية تقمع الرغبة في التغيير، وتسد الباب أمام الممتلئين بالغضب والثورة ممن حموا الحلم من نيران الحرب الطائفية، وأعدوا أنفسهم ليكونوا بنائين في عصر السلام، فإذا بجمهورية الطائف تأخذ عليهم نقص تمثيلهم لمذاهبهم أو لطوائفهم أو بالأحرى نقص ولائهم للقيادات المسلحة التي استرهنت الطوائف والمذاهب واقتحمت بها الدولة وحكم “العهد الجديد”.
حشد، لكن الرجال قلة،
والغبار كثيف، ولا فرسان،
والعدة الانتخابية مكتملة تقريباً ولكن لا حيوية ولا حياة، والموروث الفولكلوري يكاد يحول الكرنفال إلى مهزلة.
لكن لا بأس… فالناس يستعيدون شيئاً من عاداتهم القديمة، ويحاولون استذكار علاقتهم بالسياسة، مطهرة من السلاح والمسلحين.
وهي “بروفة” أو “تجربة أولى” أو “عدد صفر” للانتخابات الفعلية التي لا يمكن أن يكون موعدها أقرب من 1996، لمليون سبب أولها وأهمها هذا الحكم ومعارضته الميمونة،
فكلاهما، وحتى إشعار آخر، خارج السياسة،
وفاقد الشيء لا يعطيه، كما قالت العرب قديماً!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2025 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان