يمكن إرجاء التحفظات إلى ما بعد الترحيب بالتظاهرة السياسية الصاخبة التي استهلت تاريخاً جديداً للعمل السياسي في الجزيرة والخليج، عبر الانتخابات النيابية في الكويت وقد أعلنت نتائجها الرسمية، أمس، فجاءت شهادة للحكومة المهزومة فيها، بقدر ما هي شهادة لوعي الكويتيين المتنامي بعد المحنة التي عاشوها.
لقد سمح الحكم، ولو مكرها، بأن يقول الكويتيون “لا” لنمط معين من العلاقة الشوهاء بينه وبين “رعاياه”،
وحتى لو كان هذا التسامح قد جاء نتيجة ضغط مباشر مارسه السفير الأميركي (أو المندوب السامي) ادوارد غنيم، أو بفضل الخطيئة المميتة التي ارتكبها صدام حسين، فلا بد من التنويه بالمرونة التي تصرف بها ولي العهد ورئيس الحكومة الشيخ سعد العبد الله، والتي جعلته مستعداً لتقبل مثل هذه النتائج المرة، برغم المقاومة الشرسة التي كان يلقاها من سائر أجنحة العائلة الحاكمة والتي كانت تريده أن “يحترق” فيها.
ومخطئ من يرى في النتائج مفاجأة،
فلقد تراكمت أخطاء الحكم في الكويت، قبل الغزو ثم خلاله وبخاصة بعده، بحيث أنزلته من مستوى “المرجعية” و”القيادة” المسلم بها ولها، إلى مستوى “حزب” من الأحزاب، قد يكون أقوى بحكم موقعه على رأس السلطة واحتكاره لها، ولكنه على الأرض – أي بين الناس – يفتقد الإجماع بل وتأييد الأكثرية، ويستولد معارضة حتى داخل مناصريه القدامى لا مبرر لها إلا الإصرار على التمسك باحتكار السلطة والانفراد بها.
ولو أن هذا الحكم كان أكثر نزاهة لتنازل عن احتكاره السلطة، ولسعى إلى إشراك المعارضة (أي الشعب) في تحمل المسؤولية مباشرة، خصوصاً بعد المواقف المجيدة لها إبان الغزو، حيث لم يسقط منها أحد ولم يلتحق أحد بالغازي العتي،
أكثر من ذلك، لقد جمد المعارضون مطالبهم، إبان الغزو، وعادوا فالتفوا حول الحكم الذي كان قد اضطهدهم وأنكر عليهم حقوقهم الطبيعية، فعلق الدستور وحل “مجلس الأمة” المنتخب، و”فبرك” مجلساً وهمياً “بانتخاب” شكلي أسوأ من التعيين جعله “هيئة استشارية” ليستكمل الشكل “الديموقراطي” على حساب المضمون، أي على حساب مشاركة الشعب في القرار.
ولعل هذه النتائج هي أبسط الأدلة على وعي الكويتيين وتقديرهم لمواقف قياداتهم الشعبية التي أعادت الاعتبار للأسرة الحاكمة، عبر المؤتمر الشعبي في جدة، مرجئة المساءلة والمحاسبة عما سبق الغزو وأدى إليه أو وفر له المبررات، إلى ما بعد التحرير.
وما الانتخابات إلا الفرصة الأولى (والمرجو ألا تكون اليتيمة) التي أتيحت للكويتيين قد يقولوا من خلالها رأيهم بالحكم كما بمعارضيه.
وليس مفاجئاً على الاطلاق أن يختاروا المعارضة، على تنوعها وتعدد أطرافها وشعاراتها وبرامجها، مع تزكية مباشرة للذين صمدوا في الداخل فلم ينتظروا في فنادق الخمس نجوم في المنتجعات الأوروبية (أو العربية) ريثما يتم تنظيف الكويت من آثار الاحتلال، وتطفأ الآبار ويذهب دخان النفط المحروق هباء مع الريح.
فالقرارات الحكومية لا يمكن أن تجمد البحر فينعدم فيه الموج، أو تحجر على الأطفال فلا يكبرون مهما تقدم بهم العمر وأخذتهم الحياة في مدارجها ومعارجها وأمدتهم بالعلم والخبرة والدروس والوعي بالناس والأشياء.
هي ساعة للتبريك والترحيب، إذن، وليست للتحفظات والملاحظات القاسية… فليس من خبر يمكن أن يشيع جواً من السعادة، عربياً، أكثر من تسليم هذا الحكم أو ذاك بحق الناس في أن يقولوا رأيهم، ولو بالبسيط من الأمور، كشؤون حياتهم اليومية، طالما أنه محظور أو متعذر القبول بمبدأ حق الناس في أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم.
مباركة هي عودة الكويت إلى شيء من الديموقراطية، أو عودة هذا القدر من الديموقراطية، إلى هذه الإمارة التي تعرف قيمة هذه النعمة التي سبق أن جربتها، ولو لبرهة قصيرة من الزمن، مع قيام “الدولة”، وفي ظل “الشيخ المؤسس” أو “الشيخ العود – أي الشيخ الكبير” كما كان يسمى آنذاك، عبد الله السالم الصباح، في بداية الستينيات ومع إعلان الدستور وانتخاب أول “مجلس أمة”،
والترحيب طبيعي بل وضروري حتى لو كانت “الديموقراطية الكويتية” مدجنة ومقننة ومحكومة بضوابط داخلية (مصدرها الحكم) وخارجية (مصدرها منطق الحماية الأميركية) يجعلها تفتقر إلى مضمونها الأصلي كأداة تطوير وربما تغيير للنظام إذا ما تعارض مع الإرادة الشعبية.
على أنه يمكن إرجاء التحفط حول “الديموقراطية في ظل الحماية” أو “الديموقراطية داخل خيمة الأوكسجين”، في انتظار التحقق من الخطوات التالية للحكم، إذ أن طبيعته ستدفعه، على الأغلب، إلى محاولة الالتفاف عليها وتعطيلها – ديموقراطياً!! – أي عبر إغراق المعارضة بأكثرية موالية تتكون من النواب الجدد الموالين ومعهم مجموع الوزراء “الجدد” الذين سيعينهم في حكومته الجديدة والذين سيصيرون حكماً أعضاء في المجلس النيابي ، إضافة إلى محاولة “شراء” من يمكن إغراؤها بالمزيد من الدنانير أو الأسهم الأغلى من النفط.
هذا قبل اللجوء إلى سلاح “فرق تسد” بين المعارضات المتعددة البرامج والأهداف، ومن ضمنها الحركات الإسلامية التي لا تتلاقى جميعاً حول رؤية واحدة لمستقبل النظام والسياسة المطلوب اعتمادها سواء في الداخل (بالمضمون الاجتماعي) أو في الخارج، بدايةن بالصعيد العربي إلى “الأخوة – الأعداء” على الضفة الأخرى من الخليج (إيران)، وانتهاء بالعلاقة مع “المحرر” الأميركي ومداها وضوابطها المنطقية.
على أن الانتخابات تبقى بنتائجها والتحفظات ، خطوة في الاتجاه السليم، ضمن الظروف الموضوعية القائمة،
وهي إعلان ببدء معركة قاسية وليست نقطة النهاية.
فالمسيرة نحو المشاركة الشعبية في السلطة قد بدأت، بالكاد بدأت، وهي ستتقدم في اتجاه إرجاع آل الصباح إلى قاعدة قريبة نوعاً ما من “الملكية الدستورية” – ولو في مجتمع بدائي وقبلي – تختلف تماماً مع نمط الملكية المطلقة السائدة حالياً… خصوصاً وإن المجتمع البدائي والقبلي بالذات أشد رفضاً للامتيازات والتراتبية الطارئة بفعل السلطة، فهو مع الأبسط من قواعد السلوك عموماً (رفض الألقاب المفخمة، رفض المظاهر المذهبة والطوابير المدججة بالسلام والسكريتاريا، الخ).
لعلها بداية عودة إلى تلك القاعدة العربية البدوية التي اختطها المسلمون الأوائل في “السقيفة”، عشية وفاة الرسول العربي (صلعم)، تحقيقاً لعدالة ما في توزيع السلطة بين “المهاجرين” و”الأنصار” والتي تقوم على مبدأ: “منكم أمير ومنا وزير”،
إن بين المعارضين الذين أعاد الكويتيون انتخابهم مجددين الثقة بهم أصحاب تجربة سياسية غنية، تؤهلهم لأن يواجهوا الأعباء الثقيلة التي تلقيها على كواهلهم طبيعة المرحلة القاسية التي تعيشها الكويت المهيصة الجناح والمدمرة سمعتها، والتي أضاعت دورها الذي كان لها عربياً، خصوصاً بالنهج الانتقامي والحاقد الذي سيطر على مجمل سياساتها بعد “التحرير”،
فلا كويت بلا عروبة ، وبلا عرب،
ولا يمكن أن تغني الديموقراطية عن العروبة، بل إنها من دونها تصبح مجرد ملهاة، ومحاولة تزوير مفضوحة لحقائق الحياة.
بل إن الدعوات الإسلامية ذاتها، مهما تطرفت، لا تغني عن العروبة في شيءن وهي تتحول إذا ما جافت العروبة أو تصادمت معها إلى مشكلة جديدة بدل أن تكون حلاً لمشكلات قائمة، وها هي تجارب “الإسلاميين” في مختلف الأقطار العربية تؤكد هذه الحقيقة، بالبرهان القاطع (هل أكثر من الدم المسفوح هدراً دليلاً على الضياع وافتقاد البصيرة والدليل الهادئ؟!)
ومبروك للكويت هذه الخطوة في اتجاه الديموقراطية،
ويبقى الامتحان مفتوحاً وأمام المعارضة هذه المرة، أكثر مما هو أمام الحكم الذي لا يحتاج إلى مزيد من الأدلة على عدم نجاحه في أن يسوس البلاد،
وليت الكل يعيد قراءة تلك الكلمات الخالدة المنقوشة على مدخل “قصر السيف” في الكويت، ويحفظها جيداً: “لو دامت لغيرك ما آلت إليك”.
وسلام على من أتبع الهدى.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان