… وبين “خلدة” اللبنانية و”الخالصة” التي صارت – بالقهر – “كريات شمونة” تدور الآن رحى المعركة الأخيرة في “حرب لبنان”، فإما أن نخسرها كلية ونخسر معها الوطن واقعاً وحلماً وإما أن نحدد من خلالها حجم الهزيمة ونستوعبها بما يكفل الصحوة فالنهوض لإعادة بناء الوطن على أسس أسلم وأعظم رسوخاً.
فالمفاوضات الدائرة حالياً قد تكون – ويمكن أن تكون – أداة لإعادة توحيد اللبنانيين وإنهاء أسباب الفرقة والتباعد، وبالتالي الاقتتال بينهم، أو تكون مدخلاً إلى مزيد من التمزيق لصفوفهم وبعثرتهم مناطق وطوائف وجهات بحيث ينتفي الوطن الواحد وربما الحاجة إليه، وتمضي كل طائفة في درب التيه نحو سراب “وطنها القومي” المحمي إسرائيلياً والمضمون أميركياً، وماذا يهم بعد ذلك أن يقاطعه العرب أو ينبذوه!
ومع التسليم بأن لبنان يدخل المفاوضات وهو بالغ الضعف يجب التنبيه إلى أن الاستشعار الرسمي بهذا الضعف فيه قدر كبير من المبالغة، وفيه أيضاً – وهذا هو الأخطر – إسقاط للكثير من نقاط القوة والأوراق المؤثرة في هكذا مفاوضات عنوانها ومضمونها مصير لبنان، واستطراداً المنطقة العربية.
ومن باب التذكير والإعادة التي فيها إفادة يمكن إيراد بعض أسباب القوة “وأوراق الضغط” التي يملكها الجانب اللبناني والتي نفترض أنه لم يستخدمها أو لم يحسن تقدير قيمتها، وهذه أبرزها:
*على الصعيد الداخلي:
-انطلاقاً من أن الأكثرية الساحقة من اللبنانيين ترفض الاحتلال الإسرائيلي ولا تريده أن يبقى ويستمر، يمكن للحكم أن يتعاطى مع المفاوضات متسلحاً بهذا الموقف القابل للتصاعد واكتساب مزيد من الفعالية يوماً بعد يوم.
فليس ثمة خطر من انهيار داخلي، لمصلحة المحتل الإسرائيلي ، بل تدخل الوقائع على العكس تماماً، فحتى أولئك الذين انجرفوا للحظة مع وهم “السلام” الآتي عبر دبابات الاحتلال، أو اضطرتهم مصاعب العيش للتعامل مع الإسرائيليين موفرين شهادة حية على إمكان “التطبيع” سرعان ما أخذوا يخرجون من دائرة الوهم، تدريجياً مستعيدين وعيهم بالخطر الحقيقي ومصدره عليهم كبشر وعلى أرضهم كوطن.
أكثر من ذلك: برغم كل ما فعلته وتفعله قوات الاحتلال فإنها لم تستطع أن تكتسب بين اللبنانيين أنصاراً جدداً، بل لعلها قد خسرت بعض أنصارها القدامى ممن عادت فشدتهم جاذبية السلطة إلى خانة الحريصين على بقاء الوطن، ولو بداعي الاستمتاع بحكم مساحة أكبر وشعب أكثر عدداًز
كان إن العديد من دعاة “السلام الإسرائيلي” قد اضطروا إلى ابتلاع ألسنتهم وهم يرون على أرض الواقع إن تلك الأكذوبة قد تجلت في لبنان على شكل خراب وتدمير وفتن طالت مناطق لم تطلها الحرب الأهلية على امتداد سنواتها السبع الماضية.
وصحيح إن بإمكان قوات الاحتلال أن تفتعل المزيد من الفتن للاتكاء عليها في ابتداع مبررات لاستمرار وجودها، ولكن ذلك لن يؤدي بأي حال إلى أن تصبح “طرفاً لبنانياً” له “شعبيته” التي يمكنها أن تمنح بقاءها “شرعية” ما.
وهذه أحداث الجبل ناطقة في دلالاتها ومردودها السياسي.
-وللمناسبة فلا بد من ملاحظة حول طريقة تعاطي الدولة مع هذه الأحداث، وكذلك مع أحداث طرابلس، في ضوء انعكاسها على مجرى المفاوضات ونتائجها.
والملاحظة مجرد تأكيد على أن الأصل هو إخراج قوات الاحتلال، والباقي تفرعات وتفاصيل.
فالموضوع هو التعجيل بجلاء المحتل، وطالما إن المفاوضات هي الطريق المتاح فليكن، ومن الضروري الاهتمام بوقف الصدامات في الجبل، ولكن من الضروري أيضاً التصرف بوعي كامل إن المعالجة الحاسمة لهذه الصدامات وأسبابها لا يمكن أن تتوفر في ظل استمرار قوات الاحتلال في لبنان، وفي جبله على وجه الخصوص.
أي إن الإسرائيلي قادر على إشعال النار طالما استمر موجوداً ومن الواجب السعي لإطفاء النار، لكنه المهمة الملحة تبقى إخراجه لتعطيل قدرته على إعادة إشعالها وإغراق الدولة في دوامتها بحيث تذهب إلى المفاوضات مستضعفة ومرتبكة ومستعدة لتقديم مطلب جزئي على مطلب أساسي تحت ضغط الأحداث ونتائجها المؤلمة.
وللمناسبة أيضاً: جميل أن تتنبه الدولة أخيراً إلى خطورة ما يجري في طرابلس ولها، وأن تذهب إلى دمشق من أجل إيجاد حل يوقف النزيف الموجع، ولكن الأجمل كان أن تذهب إلى دمشق عشية افتتاح المفاوضات مع المحتل الإسرائيلي لتنسيق المواقف بما يقوي لبنان ويعزز أوراقه على طاولة المفاوضات، ويأتي الحديث عن طرابلس في هذا السياق وليس خراجه وكذلك تحديد المسؤوليات عما يجري فيها.
أي إن عين الدولة وعقلها وتفكيرها وهمها يجب أن تتركز جميعاً على المفاوضات كوسيلة لإخراج المحتل، أما باقي الموضوعات – على أهميتها – فلا يجوز أن تتقدم عليها أو تساويها في الدرجة، خصوصاً وإن حلولها النهائية مرجاة، فعلياً، إلى ما بعد زوال الاحتلال، ومفاتيح هذه الحلول ليست في متناول اليد ولن تتوفر بالقطع الآن مهما كانت النوايا والمساعي المبذولة.
-يتصل بهذا اتصالاً وثيقاً إن تركيز الدولة على مطلب إخراج المحتل يستتبع تركيز اهتمام الناس عليه واستنفارهم لدعم الحكم من منطلق وطني واضح: أيديكم جميعاً معي لنحرر الوطن،
والاستنفار لا يتم في ظل التعاطي مع المحتل إلا بوصفه محتلاً، فالذاهبإليه ذاهب إلى المحتل والقادمة من لدنه قادم من لدن محتل، والمروج له مروج لمحتل.
والاستنفار لا يتم أيضاً إلا في ظل تقديم المحتل في صورته الحقيقية كمحتل، حتى لو كان يجلس معنا إلى طاولة المفاوضات… فلا الطاولة تغير طبيعته ولا المفاوضات نفسها، لكن الشكل له أهمية خاصة في هذه اللحظة، ويندرج ضمن الشكل الذي يعكس نفسه على المضمون: طريقة المصافحة والسلام واللغة المستخدمة وتعابير الوجوه والأسلوب الإعلامي في التقديم كلمة وصورة ومساحة في الصحيفة والإذاعة والتلفزيون وكيفية وضع الأعلام (في خلده أمام كل وفد علمه اما في الخالصة فأمام كل وفد الأعلام الثلاثة معاً!!).
كذلك فالاستنفار لا يتم في ظل هذا النمط من الكلام الممطوط وغير المحدد والملتبس، وفي ظل إغراق الناس في تفاصيل تجعل العدو “أليفاً” وتضفي عليه طابعاً اجتماعياً، وكأنما المفاوضات حفلة كوكتيل،
إن “التطبيع” هدف استراتيجي إسرائيلي. ولكن إطلاق الألسنة والأدمغة في محاولة اختراع الأوصاف المخففة، والصيغ اللفظية البديلة، التي لا تغير من جوهر الأمر شيئاً وإن كانت تهونه على بعض الناس، لا تفعل غير خدمة هذا الهدف.
وبرغم إن الليونة ضرورية في هكذا حالات، إلا أن ثمة محظورات لا يجوز أن تختفي أو تخفى وسط سيل التفاسير والفتاوى والاجتهادات المفبركة خصيصاً لتمرير التفريط لا بذريعة “لا حول ولا..”، ولا بحجة “الخلاص بأي ثمن” ولا بدعوى إننا وفقنا فأنقذنا ما يمكن إنقاذه بشطارتنا واستغفالنا للإسرائيليين وجهلهم باللغة الفرنسية (مثلاً)!
إن كثيراً مما يقال، بألسنة رسميين، هو خير تمهيد للتطبيع، وإلا فما معنى التباري في إظهار حسنات خفية لتعبير مثل “حسن الجوار” والادعاء بأنه بالإمكان حصر دلالاته في حدود مساحة محددة جغرافياً، أو الزعم بأن تعبيراً مثل “وقف الحملات الإعلامية” لا يعني أكثر من امتناع الصحف والاذاعات عن التعامل مع إسرائيل من موقع العداء في حين إننا رأينا إن الدلالة الفعلية لهذا التعبير قد وصلت في مصر السادات إلى حد التدخل في اختيار ما يذاع ولا يذاع من القرآن الكريم ذاته”.
إن موقف لبنان في المفاوضات ليس بقوي، هذه حقيقة، لكنه ليس من الضعف بالقدر الذي يستشعره البعض ويريدون من الناس أن يستشعروه ليسلموا سلفاً بأية نتيجة تنتهي إليها المفاوضات، حتى لو كان يهون أمام تلك النتيجة بقاء الاحتلال نفسه.
إن المفاوضات معركة، ومعركة صعبة ومريرة، وقاسية، وفي التقدير إن لبنان لم يعد نفسه تماماً، ولم يحشد ما يملكه من أسلحة ووسائط ضغط، لا على الصعيد المحلي ولا على الصعيد العربي – برغم كل مخازي ا لوضع العربي الراهن – ولا حتى على الصعيد الدولي،
ويكفي الاستدلال بعملية بطولية كالتي وقعت في قلب تل أبيب أمس الأول، أو كالتي وقعت من قبل على طريق الحدث أو على طريق عرمون، إضافة إلى عمليات صيدا والجنوب، للتوكيد على إن الحياة مستمرة خارج قاعة المفاوضات، وإن الآفاق أوسع بكثير من أن يسدها تعنت بيغن أو “وثيقة شارون”.
وللمناسبة أخيراً: يمكن للمفاوض اللبناني أن يبدأ حديثه في خلده اليوم مع وفد الاحتلال بسؤاله عما جرى في تل أبيب، كمدخل إلى الحديث عن مدى نجاح “التطبيع” في منطقة تحتلها إسرائيل منذ خمس وثلاثين سنة أو يزيد.
وغداً نكمل استعراض سائر أوراق الضغط اللبنانية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان