انعقد المؤتمر الأول للحوار الوطني في جنيف، مباشرة في أعقاب “حرب الجبل”، وأمين الجميل مطعون في شرعية رئاسته للبلاد، بغرم إنه كان بالكاد قد أكمل سنته الأولى فيها،
وانتهى المؤتمر بتعويم الحكم، وقيل: بل بإعادة انتخاب أمين الجميل رئيساً للجمهورية، وهذه المرة بأصوات المعارضة (جبهة الخلاص الوطني وحركة “أمل”) معززة ومدعومة بأصوات العرب ممثلين بسوريا أساساً ومعها السعودية. لكن التعويم كان مشروطاً بالسعي لدى الولايات المتحدة لإلغاء اتفاق 17 أيار مع العدو الإسرائيلي.
وعاد أمين الجميل من جنيف وقد استعاد شيئاً من الاعتبار السياسي، ولكن الحكم الذي يقوده والذي كان قد تورط عبر مؤسسة الجيش في “حرب الجبل” لم يستطع ولعله لم يحاول أن يعيد الدولة إلى ذلك الجزء من البلاد، بعد جلاء المحتل الإسرائيلي عنه، وعلى قاعدة سياسية وطنية واضحة وبسيطة مؤداها أن تقوم الدولة بواجباتها الطبيعية في المناطق التي يجلو عنها المحتل (حتى لا نقول: التي يتم تحريرها).
كذلك فإن أمين الجميل الذي ذهب إلى واشنطن بتكليف من مؤتمر الحوار الوطني وبمطلب محدد وحيد، قال فيها عكس ما كان يفترض أن يقوله. لقد طالب واشنطن بتفيذ اتفاق 17 ايار، بدلاً من إبلاغها بضرورة إلغائه، وبرر موقفه بأنه جوبه، لدى وصوله بحملة قاسية فارتأى أن يلتف عليها بإحراج الأميركيين عن طريق مطالبتهم باحترام توقيعهم بدل أن يواجههم بمطلب الإلغاء فيحرجوه هم ويعيدوه خالي الوفاض.
بعد ثلاثة شهور ونيف، انعقد المؤتمر الثاني للحوار الوطني في لوزان وأمين الجميل ينوء تحت ثقل اتهامات خطيرة كانت تبرر للمعارضين المطالبة بإقالته وتقديمه للمحاكمة في ضوء مسؤوليته المباشرة عن توريط الجيش، مرة أخرى، في حرب مدمرة ضد الضاحية الجنوبية والعاصمة بيروت،
وانتهى المؤتمر الثاني بتعويم جديد للرئيس الذي كان افتدى نفسه بزيارة دمشق وإبلاغها قراره بإلغاء اتفاق 17 أيار، وهكذا تم طي المطالبة بإسقاطه ومحاسبته، وتم التسليم به رئيساً للجنة السياسية – الأمنية العليا التي اعتبرها البعض “حكومة ظل” أو “صورة أولية” وتمهيداً عملياً لحكومة الاتحاد الوطني العتيدة التي ستكون الرديف الطبيعي للجنة التأسيسية المكلفة والمولجة بإعداد مشاريع الإصلاح السياسي المنشود.
لكن أمين الجميل الذي عاد من لوزان رئيساً لم يستطع ولعله لم يحاول إعادة الحكم إلى المناطق التي أخرجتها منه سياسته، بل هو بدأ مناورة ابتزاز قوامها: سلموا بي وبحكمي وبجيشي فتعود الدولة إلى بيروت والضاحية، وإلا فتحملوا أنتم مسؤولية الوضع القائم، في الجنوب كما في العاصمة وضاحيتها وصولاً إلى الجبل.
وهكذا يبدو الحكم اليوم وعشية زيارته الثانية لدمشق وكأنه يعيش ويفرض علينا أن نعيش مفارقة غريبة: فبقدر ما تقلص وجود الدولة، وانتفى وجود الحكم تراه يطالب الآخرين بتنازلات وكأنهم هم المتسببون في نشوء الوضع المأساوي الراهن،
أي إنه يريد مزيداً من السلطات والتسليم بشرعيته في حين إن المساحة التي يتحرك فوقها حكمه تكاد تختزل بالمسافة بين سوق الغرب – كخط دفاع أول عن قصر بعبدا – وخطوط التماس في شرقي بيروت، وهي الخطوط التي يمترس فيها ما تبقى من الجيش بحيث يبدو هو المسؤول المباشر عن الاشتباكات وعمليات القصف الوحشية التي تزهق يومياً عشرات الضحايا وتدفع المواطنين دفعاً إلى اليأس وحافة الجنون والسعي الحثيث للهرب من البلاد بأية وسيلة وبأي ثمن.
أكثر من هذا: فـ “القوات اللبنانية” تحاول التنصل من مسؤولية الاشتباكات والقصف ملقية التهمة ضمناً على “جيش طنوس” لتوريطه أكثر فأكثر، وجعله الترس الذي تحتمي خلفه مظهرة استعدادها الكامل للحوار الإيجابي مع الأطراف المقاتلة الأخرى (الحزب التقدمي الاشتراكي و”أمل”) وصولاً إلى مغازلة دمشق بالإيحاء بالاستعداد لأن تعطيها فوق ما تطلب وتريد!!
اليوم يبدو وكأن الحكم يذهب إلى دمشق بقصد أن يستعيد فيها ومنها وبواسطتها ما فقده معنوياص وسياسياً وعلى الأرض.
إنه يذهب مطالباً دمشق بأن تعطيه “الدولة”، وبأن تعطيه “الأرض” و”الشعب” ، في حين تبقى حكاية “الترتيبات الأمنية”، مع إسرائيل معلقة، في انتظار المزاد ، ويبقى معها وضع الجنوب معرضاً للخطر تنهشه خطة التفتي والعزل الإسرائيلية نهشاً وتنهش معه إقليم الخروب وتستمر في تثبيثت “وجودها” في بعض أنحاء البقاع والجبل.
أي إن الحكم يطالب الآخرين ممن قاتلهم بأن يعيدوا إليه سلماً وطوعاً ما فقده نتيجة السياسة التي ارتكزت على سلسلة من المغامرات العسكرية والسياسية البائسة التي دمرت ما تبقى من الدولة وحفرت في الأرض عميقاً لمشاريع الكانتونات والفيدراليات وسائر أشكال التقسيم.
وتبقى القضية الأولى بيروت وما جرى ويجري فيها، والتي يحاول الحكم أن يجعلها البند الأول على جدول أعماله في اللقاء مع القادة السوريين… فهو سيطالبهم حتماً، بأن يساعدوه على إعادتها إلى “بيت الطاعة” مستغلاً بعض الاشكالات والمشاكل التي وقعت وكان لا بد أن تقع فيها، في ظل غياب الحكم العادل والقادر، وفي ظل انشطار الدولة وتفكك مؤسساتها الفاعلة، تستوي في ذلك المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية أو تلك المسؤولة عن اقتصاد البلاد وهم الرغيف اليومي.
فالحكم هو الذي يفرض على بيروت، حتى هذه الساعة، حصاراً حقيقياً، وبالنار، بحيث يكاد يعطل فيها الحياة العادية، ولعل وضع منطقة رأس النبع يصلح ليكون نموذجياً في هذا المجال، فلماذا يمترس “الجيش” فيها ومن تراه يقاتل من قلب بناياتها أو من خلفها؟! ومن هي الحشود المهاجمة التي يقصف لصدها وحماية لمن وممن؟!
والحكم هو المتسبب في البطالة السياسية التي تعيشها البلاد، فلا حركة ولا تحرك، لا على صعيد الداخل ولا على صعيد الخارج أصلاً، لا من يذهب ولا من يجيء، ولا من يرفع صوته بكلمة حول الجنوب وما يجري فيه، وحين يشار إلى الحكم باصبع الاتهام عن “لحد الجنوب” يرد بنفي التهمة مع التأكيد على صحة الواقعة التي تقول إن العميد المتقاعد أنطوان لحد قد زار القصر مرة وزار وزارة الدفاع مرتين، في الأيام القليلة الماضية، وبعد اعتماده من قبل إسرائيل قائداً لما يسمى “الجيش الجنوبي”،
والحكم هو المسؤول عن تصاعد النغمة التقسيمية وتبلورها في خطوات عملية من مشروعه في اللامركزية الانمائية والأمنية والإدارية، إلى عجزه في مواجهة مأساة المخطوفين والمفقودين التي يعرف الجميع أين اختفوا ومن أخفاهم، إلى إخراس صوت الإذاعة الرسمية بعدما خرجت على “طاعته”، إلى شطر التلفزيون محطتين الخ.
ثمة من يقول إن الحكم يعمل كل ما في وسعه لإرهاق الناس في بيروت والضاحية وإتعابهم وترويعهم وتيئيسهم بحيث يندفعون للمطالبة بعودة الدولة، أي دولة، خلاصاً من الفوضى والتسيب وما قد ينجم عنهما،
وثمة من يصل بالاتهام إلى ما هو أبعد فيرى إن بعض الحكم، أو بعض من خلفه، هم “أبطال” حفلة التفجيرات التي تتصاعد وتيرتها يومياً، ويستدلون على ذلك بأن معظم المتفجرات التي ألقيت على مؤسسات عامة وخاصة (بينها “السفير”) إنما هي مصدر واحد تدل عليه الكتابات الباقية على بعض العبوات التي لم تنفجر.
على إن هذا كله لا يعفي المعارضة من المسؤولية عن بعض وجوه الخلل والنقص في الانضباط والالتزام والأهم: عن صياغة البرنام=ج السياسي الشامل الذي يشكل إطاراً للنضال الوطني في مرحلة خطيرة كهذه،
فالمعارضة أيضاً غرقت في “البطالة السياسية” المفروضة على البلاد واستكانت بعد لوزان فلم تطرح جديداً يصلح بديلاً أو مكملاً لما كانت بدأت بطرحه.
ويوماً بعد يوم تغرض المعارضة، وقواها الفاعلة أساساً في هموم الحياة اليومية التي ترى نفسها مضطرة لتحمل مسؤوليتها بغير أن تكون أعدت نفسها كفاية لمثل هذه المهمة الشاقة، وبغير أن تكون أجهزتها مؤهلة وكافية لتعويض غياب دولة يفترض ألا تغيب وألا يشلها الخلاف مع الحكم أو عليه.
ومع بدء العمل بالتدابير الأمنية الجديدة التي يفترض أن تأخذ طريقها إلى التنفيذ هذا الصباح، يفترض أن ينفسح المجال لزيد من الكلام السياسي الصريحن عن بيروت القضية، بوصفها التخليص الحي لوضع الوطن ومأساته بكل أبعادها… فإلى غد، مع الأمل بأن تنجح التدابير في توفير حد أدنى من الهدوء ليسمع أحدنا الآخر ولنستطيع العودة بالأمور إلى أصولها بدلاً من الغرق في التفاصيل التي لا تنتهي.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان