بثياب النوم أخرجت كفرحونة من بيوتها الفقيرة وشلحت في العراء،
جاء “السلام الإسرائيلي” بثياب “الفتنة” المرقطة كما الأفعى، فحاصرها بالدبابات والآليات والخوذات والبنادق، ثم أخذ من الرجال المسلمين فقط، ملقياً ظلال الريبة على سائر الرجال في القرية والمنطقة،
كأنما المقاومة شأن “إسلامي” لا علاقة للمسيحيين به، أو كأنما المسيحيون موافقون على الاحتلال خاضعون لإرادته، وأكثر من ذلك: متواطئون على أخوتهم في الأرض والتاريخ والمصير، والدين أيضاً بالمعنى الرحب لمفهوم الرسالة السماوية وقيمها الرافضة للظلم والقسر والقمع واحتقار إنسانية الإنسان.
بضربة واحدة جعل المحتل الإسرائيلي أهالي كفرحونة جميعاً من الضحايا مرة جديدة: فليس التشكيك في وطنية الباقين فيها بأقل إيلاماً من رمي المقتلعين منها إلى عراء الرأي العام الدولي وقرارات الأمم المتحدة بما فيها “الحبوب” 425، والعملية السلمية وموفدها المتعب من التجوال وارن كريستوفر (وقد كان في تلك الساعة بالذات ضيفاً على إسحق رابين يفاوضه على مستقبل العراق والجزيرة والخليج).
قافلة جديدة من الضحايا الممتازين تنضم إلى الموكب اللجب المحتشد عند باب الأمم “المتحدة” (والآن عليه وليس معه)،
وغداً سوف يستعاد الشريط القديم: سفراء الدول الكبرى في الخارجية والصور لهم جلوساً في الداخل أو وقوفاً على باب الوزارة يعلكون ذلك الكلام الممجوج والفارغ من أي معنى والذي طالما سمعه السابقون من الضحايا واللاحقون، ولم يسمعه لحسن الحظ الشهداء الذين اغتالتهم صواريخ السلام الإسرائيلي.
وليس للمقتلعين من كفرحونة وجاهة القضية التي كانت ذات يوم للمقتلعين من أرض فلسطين، وبالتالي فلا C.N.N ولاشبكات تلفزة عالمية تنقل صورهم وتصريحاتهم بالأقمار الصناعية، ولاخطوط هاتف دولية يتحدثون عبرها إلى العالم أجمع، ولا رعاية استثنائية لا من حكومتهم ولا من “الدول”.
ثم أن الحكومة مشغولة بالتضامن مع الكويت المهددة، وهي قد وضعت طاقاتها وإمكاناتها جميعاً، المادية منها والعسكرية والاقتصادية، تحت تصرف سمو الأمير المفدي، فلم يتبق لديها ما تقدمه لأبناء كفرحونة الصابرين غير بعض الإعاشة والصدقات، خصوصاً وإنها تعتمد على “نخوة” أبناء الجنوب في إغاثة أشقائهم واستضافتهم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
كفرحونة لاجئة في بيروت، لا عنوان لها بعد يومين ولا من يستذكرما جرى فيها، فليس لكل الأرض المحتلة من يعنى بشؤونها. هي ليست ضمن اختصاص وزارة أو إدارة محددة. وهؤلاء الذين طردهم الليل الإسرائيلي من بيوتهم لا تنطبق عليهم شروط المهجرين، وبالتالي فلا نصيب لهم في سندات الخزينة بالدولار والتي نفدت قبل صدورها لعظيم الإقبال عليها في زمن الركود الاقتصادي الشامل نتيجة لثقة الأسواق المالية الدولية بلبنان الخرب!
وليست كفرحونة على جدول أعمال وارن كريستوفر،
أخ! لو كان في كفرحونة بئر نفط واحد!
ورابين فوق المحاسبة والنقاش.. وبالتالي فلايطلب منه “المجتمع الدولي” الانسحاب من جنوب لبنان، ولا يفرض عليه تقييد حركة جيشه، بآلياته وجنوده، ولا يحظر على طائراته الحربية قصف المدن والقرى وإحراق المحاصيل والحقول وأشجار الزيتون… ولا تجيء الأساطيل وقوافل الجند من أربع رياح الأرض لتؤدبه بالدمار المريع!
وفي حين يطلب كريستوفر من ياسر عرفات، شخصياً،وبعد كل ما وقع من اتفاقات إذعان، أن يدين عملية فدائية في القدس الغربية (المعتبرة إسرائيلية)، فإنه لا يتكرم بكلمة واحدة استنكاراً لما وقع لكفرحونة وأبنائها الستة والعشرين وعائلاتهم المهددة في مصيرها ومستقبلها وأبسط حقوقها الإنسانية، ولا صدرت عن أية جهة دولية معنية بـ “السلام” كلمة شجب واحدة أو اعتراض أو تخوف على تأثير هذه الجريمة الجديدة على مسار “العملية السلمية”.
المقتول يقتل مرة أخرى، والمصلوب يصلب من جديد على خشبة الاحتلال،
هل هي “كفروحونة أولاً” بعدما فشلت عملية “جزين أولاً” التي كانت تستهدف فصل المسار اللبناني عن المسار السوري في المفاوضات مع الاحتلال الواحد؟!
كيف يكون الرد، وأين يكود الرد، ومن يتولى الرد؟!
لبنان كله قد اقتلع أمس من نومه ومن أوهامه وليس تلك الكوكبة من رجال كفروحونة.
والرود وطني بالضرورة، يشارك فيه الجميع: الحكم بهيئاته ومؤسساته جميعاً، رئاسة وحكومة ومجلساً نيابياً وتنظيمات وأحزاباً وهيئات شعبية،
ألا تكفي عملية بهذه الخطورة لكي يهز لبنان كله أمن أولئك الذين يشطرون لبنان ويمزقون وحدة اللبنانيين بحاجزهم في باتر؟!
في أي حال، أبسط رد أن يعود هؤلاء المقتلعون بحماية دولتهم وشعبهم واليوم لا غداً إلى أقرب نقطة من قريتهم… وهناك تكون المعركة جدية وليس في بيروت المضيعة بين سوليدير وأليسار والطريق الدائري الذي يسهل حركة المقتلعين غداً بالكسر والفتح على حد سواء!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان