يقدّم الواقع العربي، بتداعيات ما بعد الهزيمة القومية الشاملة في الخليج، صورة جزئية للنظام العالمي الجديد، وهي لا تتكامل في أبهى تجلياتها إلا إذا أحسنت قراءة التطورات النوعية التي تتوالى على الكيان الصهيوني ودوره الكوني المتعدد الأبعاد.
لكأن هذا النظام العالمي الجديد يقدم نفسه عبر مشروعين إمبراطوريين متكاملين: أولهما الهيمنة الأميركية المطلقة على أربع رياح الأرض، والثاني الهيمنة الإسرائيلية على العالم الثالث أو ما كان يسمى تكتل عدم الانحياز مضافاً إليه ما كان يسمى المعسكر الاشتراكي، لاسيما القسم الأوروبي منه.
فإسرائيل تقوم اليوم، كما كانت تقوم دائماً، بدورين في آن: وكيل حصري “للسيد” الغربي في الشرق عموماً، و”سيد” له خطته الخاصة في الإقليم الذي زرع أصلاً فيه بحماية الحراب “الغربية”.
وكما إن عرب اليوم ليسوا عرب 1990، بأي حال، فليست إسرائيل هي ما كانت عليه عشية غزوة صدام حسين البائسة للكويت، بكل نتائجها المدمرة والتي لم يظهر منها حتى الساعة غير مقدماتها وعناوينها الكبرى.
وفارق القوة بين العرب مجتمعين (واجتماعهم مستحيل) وبين إسرائيل منفردة (وهي لم تكن منفردة يوماً) قد تزايد طرداً حتى لم يعد ثمة مجال للمقارنة.
فأرباح إسرائيل من الهزيمة العربية تتجاوز بكثير حاصل جمع ما خسره العرب، في مختلف أقطارهم وعلى مختلف المستويات، لتشمل – في ما تشمله – حصيلة الانهيارات والتراجعات في المعسكر الاشتراكي، ثم حصيلة تزايد الهيمنة الأميركية على أوروبا واليابان وصولاً إلى أعمق أعماق الصين.
إن إسرائيل تتصرف باعتبارها شريكاً كاملاً للولايات المتحدة الأميركية في حرب الخليج، وتكاد تقاسمها المغانم ليس فقط على النطاق العربي، وإنما على مستوى العالم كله.
ثم إنها تهوّل بسيف النصر على كل من كان يعتبر متعاطفاً مع العرب وقضاياهم، وتبتزهم جميعاً، وتفرض عليهم “كفارات” تعويضاً عن مواقفهم القديمة “المعادية”، يستوي في ذلك الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية ومجموع الدول الآسيوية والأفريقية وصولاً إلى الأمم المتحدة التي تحاول تل أبيب الآن قسرها على إلغاء قرارها التاريخي باعتبار الصهيونية حركة عنصرية.
وإسرائيل تفعل هذا كله وهي تؤكد عنصريتها:
1 – تستقدم اليهود البيض من الاتحاد السوفياتي واليهود السود من أثيوبيا، واليهود السمر من اليمن (؟) وأنحاء أخرى، بوصفهم يهوداً فحسب، مكرسة بذلك اعتبارها كل يهودي مواطناً إسرائيلياً، برغم أنف جميع الدول المعنية التي كان اليهود فيها بعض رعاياها وإن اختلفوا في الدين عن الأكثرية.
2 – تفرض على العالم جميعاً أن يساهم في تمويل عمليات النقل، وتتباهى واشنطن بأنها وفرت لها أعظم جسر جوي في التاريخ، وهو إنجاز ما كان ليتم لولا التدريبات العملية التي سبقتها تمهيداً لحرب الخليج التي انتهت من قبل أن تبدأ.
3 – تقيم مئات المستعمرات الجديدة على أرض فلسطين كلها، وبعض أرض سوريا المحتلة، وربما على بعض المحتل من أرض لبنان، فارضة على الغرب كله المساهمة في دفع تكاليف إشادتها، والأهم: فارضة على الجميع الصمت عن جريمة تشريد من تبقى من شعب فلسطين فوق أرضه،
هذا بينما “مبارة بوش” تترنح تحت وطأة اللاءات الإسرائيلية المتعاقبة التي لم تبق لها أي معنى، وبينما تنهال الانتقادات (والشتائم) على جيمس بيكر لأنه تجرأ فرد على ملاحظات قاسية وجهها إليه بعض الموظفين في ديوان إسحق شامير.
على إن الأخطر من هذا كله هو التعاون العالمي المشبوه على بناء قوة إسرائيل الخرافية، والتي تتجاوز بكثير ما تجتاجه لمواجهة العرب مجتمعين (إذا ما اجتمعوا!!).
فبعد الولايات المتحدة وتقديماتها غير المحدودة، والتي تمتد من الذرة إلى الصواريخ المضادة للصواريخ مروراً بمنحها الخبرات الثمينة لتطوير صناعة الطيران الحربي والدبابات،
وبعد فرنسا وألمانيا الغربية وبريطانيا وسائر الدول الأطلسية بكل ما وفرته لإسرائيل من معلومات ومن مساعدات فنية في مختلف مجالات التصنيع الحربي،
وإضافة إلى التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وإلى تخزين السلاح الأميركي في قواعد داخل الكيان الصهيوني، تحسباً لأية حرب محتملة كما قال وزير الدفاع الأميركي ديك تشيني،
إضافة إلى هذا كله يتقدم الاتحاد السوفياتي، اليوم، عارضاً على إسرائيل استعداده لتسليمها أسرار صناعاته الحربية المتقدمة، لاسيما في مجال الطيران والصواريخ بعيدة المدى.
(لكم كلفت العرب تلك الحفنة من صواريخ سكود العراقية على الأرض المحتلة، والتي ألغت التحرير ولم تكن أبداً مقدمة له..)..
لكأنما يعاد تأسيس إسرائيل، مرة أخرى، وكمشروع إمبراطوري هذه المرة، بمشاركة الشرق والغرب معاً،
لكن الدلالات أوضح اليوم مما كانت عليه في العام 1947، ولا مجال معها لأي ادعاء حول رفع الاضطهاد عن يهود أوروبا أو التعويض عليهم (من أرض الآخرين) بعض ما عانوه على يد النازية.
إن إسرائيل المشروع الإمبراطوري تبدو أقرب ما تكون إلى مشروع جبهة عالمية لاستئصال الجنس العربي،
ففي إسرائيل فقط، وضد العرب فقط، تحتشد كل هذه القوى المختلفة الانتماءات والاتجاهات والعقائد والمصالح، والهائلة الامكانات، والمحددة الهدف تماماً: تدمير الإرادة العربية والقدرة على بناء الذات أو المحافظة على النوع، في أي زمان وأي مكان.
وحدها إسرائيل تحصن، أكثر فأكثر، ضد الإرادة الدولية، أو الشرعية الدولية، وتشجع على تمزيق قرارات مجلس الأمن وتحديها، في حين تتزايد العقوبات على العرب شاملة العديد من دولهم في المشرق والمغرب.
وليس صحيحاً إن العراق وحده على لائحة العقوبات الدولية (من دون أن نذكر بأن صدام حسين ما زال فوق عرشه في بغداد، يحظى بالرعاية الأميركية مع شيء من العتب الرئاسي الحميم…).
سوريا، مثلاً، ومعها ليبيا، ما زالتا على قائمة الإرهاب، وما زال محظوراً التعامل الطبيعي معهما،
ولبنان ما زال في “الكرنتينا”، ودليل عافيته أميركياً أن يدفع جيشه (قيد التأسيس) إلى صدام جديد ضد الفلسطينيين في الجنوب، بأمل الحصول على شهادة حسن سلوك من إسرائيل… بغير أن تجلي قوات احتلالها عن أرضه!
وبشيء من التدقيق تظهر الشروط الإسرائيلية على العرب، في كل أقطارهم، أقسى بكثير من الشروط الأميركية على العرب “العراقيين” في حرب الخليج،
من هنا يسهل الاستنتاج بأن النظام العالمي الجديد إسرائيل الوجه والطبيعة… خصوصاً في الدنيا العربية،
لكأن هذا النظام هو خلاصة التزاوج بين ما كان يسمى الإمبريالية بزعامة الولايات المتحدة وبين ما كان يسمى الصهيونية ممثلة بالمشروع الإسرائيلي الإمبراطوري فوق الأرض العربية،
ولكأن الأرض العربية هي مسرح العمليات الأساسي لإثبات جدارة هذا النظام، فمن خلال إخضاعها والتحكم بأهلها ومواردها تتأكد سيادته على الكون.
نظام عالمي جديد؟…
لقد أقام النظام العالمي القديم إسرائيل من غير أن يلغي العرب، بل لعله قد استولد حالة نهوضهم الثوري في الخمسينات،
أما مقدمات النظام العالمي الجديد فتشير إلى أنه يستهدف إلغاء العرب، تماماً، وفتح أرضهم وإرادتهم أمام المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي، وإلا اجتمعت عليهم سيوف العالم كله!
والعرب عرب، في نظر هذا النظام الجديد، بكل أصنافهم وأنماط أنظمتهم، ولكنهم ليسوا وحدة في نظر أنفسهم ولا خاصة في سياساتهم.
… وحتى أولئك الذين بذلوا دمهم حماية للكويت والسعودية وسائر الخليج يلقون “جزاء سنمار” من “أخوتهم” الذين يتوهمون اليوم أنهم “في قلب” النظام العالمي الجديد، وهم خارجه مهما بالغوا في استسلامهم وفي التفريط بما كان مقدساً في تاريخهم أو في واقعهم الراهن.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان