لو كان في البوسنة فقط، لسال الدم غزيراً من أجل فك الحصار عنها، ومن أجل “تحريرها”، وتوكيد سيادتها بتنصيب دولة وحكم فيها، ثم من أجل تحصين حدودها – بعد توسعتها ومدها إلى أراضي الدول المجاورة – بالأساطيل الأميركية للشرعية الدولية، بحراً وجواً، وقوات التحالف الدولي براً…
لكن البوسنة ليست الكويت.
وصحيح أن سكانها هم مثل سكان الكويت من المسلمين، لكنهم ليسوا من الدرجة الأولى، أو أنهم ليسوا صنفاً ممتازاً يدفع ثمن التضحية ذهباً أسود.
ففي منطق الشرعية الدولية للعصر الأميركي لا فضل لعربي على أعجزي إلا… بالنفط.
وكذلك فلا فضل لعربي على عربي، إلا بالنفط.
ومثل أهل البوسنة التعساء، سالت دماء البسطاء من الناس في لبنان غزيرة، ولسنوات، في مذابح تفوق فظاعة مذبحة سراييفو، يوم “السبت الأسود”، من دون أن تتحرك أساطيل الشرعية الدولية، ومن دون أن تنتظم جيوش التحالف الدولي طوابير تغطي عين لاشمس لتقيم العدالة وتنصف المظلومين!
ولعل اللبنانيين كانوا الأشد تأثراً وانكساراً وهم يرون ذلك المشهد الذي يستوطن وجدانهم ويلتصق بجدار الذاكرة لكثرة ما عايشوه في عاصمتهم بيروت، كما في طرابلس وصيدا، وأنحاء أخرى من لبنانهم الذي ظل ينزف لسنوات طويلة بينما العالم يعطيه ظهره، وإن كان بعضه لم يتورع عن اتهام اللبنانيين بالوحشية ونقص الوطنية (والإنسانية) وصولاً إلى الإرهاب.
لا نفط في البوسنة، ولا غاز، فمن أين يأتيها الحظ؟!
… وهكذا يسيل دم أبنائها، وسائر الأهالي البسطاء في البوسنة والهرسك، فتعجز الشرعية الدولية ليس فقط عن حمايتهم بل كذلك عن معرفة “الجاني” الذي يدبر المجازر الجماعية فيها بانتظام، وبغير أن يهتز له جفن نتيجة التهديد بقصفه جواً، إذا هو أباد كامل السكان هناك!
مضحك إلى حدود البكاء هو تصريح قائد قوات الأمم المتحدة في سراييفو الذي أكد عجزه عن توجيه الاتهام إلى طرف بعينه، في انتظار فحص شظايا القذيفة التي فجّرت السوق ومن كان فيه من بشر، لتحديد “نوعا” و”مصدرها” والمدفع الذي أطلقها والعناصر التي كانت خلفه والضابط الذي أصدر الأمر بالقصف غير العشوائي بدليل أنه حصد حوالي ثلاثماية رجل وامرأة وطفل بضربة واحدة!
أما المبكي إلى حدود الاضحاك فهو تلك التصريحات “الأخلاقية” التي صدرت عن مجموعة من المسؤولين الأوروبيين، أكثرهم عاطفية الفرنسي بطبيعة الحال، وأكثرهم صرامة الألماني.
أما الرئيس الأميركي فقد أرجأ قراره بالقصف الجوي طلباً لإجماع أوروبي، أو لتفويض دولي كامل شامل، مع أنه في العادة – وبشهادة تجربة الكويت – يفرض الإجماع ولا يطلبه، ويوزع الأنصبة جنداً وعتاداً وتمويناً وتمويلاً على “القبائل” جميعاً، وكذلك ينثر دم “المعتدي” بعد تأديبه حتى لا يكون ثمة مجال لثأر أو لطالب ثأر..
منذ ثلاثة وعشرين شهراً يناقش الأوروبيون خيار التدخل العسكري ضد الصرب (والكروات) لإيقاف حرب الإبادة ضد مسلمي البوسنة والهرسك، والحصار يشتد والجوع يفتك بالسكان، والحرب لا تتوقف ولا تخفت نارها، فإذا ما هدأت رسمياً تحركت “العناصر غير المنضبطة” لإنجاز “المهمة المقدسة” اغتيالاً بالمدافع الثقيلة.
أما المسلمون فيتصايحون ويتهاتفون ويطلقون آئمة المساجد ليستنزلوا اللعنات على الباغي والظالم والمجرم والقاتل إلى آخر القائمة، وقد يلوّحون بأنها “صليبية جديدة”، وقد يبكون ويستبكون تحسراً على مصير أتباع الدين الحنيف، وقد يوجهون اللوم إلى قادة المسلمين لأنهم لا يتنادون إلى الاجتماع ولا يتلاقون على مستوى القمة ولا يتحركون لوقف المذبحة…
ومن سوء حظ البوسنة، أيضاً وأيضاً، أن مشكلتها انفجرت بعد “عاصفة الصحراء” التي اجتاحت المدخرات والعائدات والأرصدة المجمدة وصندوق الأجيال.
فهذه هي السعودية تعاني ضائقة مالية حادة أعجزتها عن وضع موازنتها السنوية، وألجأتها إلى الاستدانة وإلى المطالبة بهيكلة المتوجب عليها سداداً لثمن الأسلحة التي فرض عليها أن تشتريها وهي تدرك أنها لن تستخدمها، هذا إذا ما كانت أصلاً قابلة للاستخدام.
أما الكويت فهي عزيز قوم ذل، وقد هانت خزينتها حتى على أبناء الأسرة الحاكمة، فها هو بعضهم موضع مساءلة بتهم تعوّدنا أن توجه إلى المحتاجين لا على المترفين.
وتعاني الكويت من ضيق ذات اليد برغم أنها استعادت حقل الرميلة كاملاً، وربحت – بأفضال “عاصفة الصحراء” إياها – مرفأ أم قصر، فامتدت أراضيها واتسعت موانيها وعادت آبارها إلى ضخ النفط تعويضاً وإكراماً لمن حررها وأعاد استيلادها… وسبحان من يحيي العظام وهي رميم.
لذا تحرك فقراء المسلمين، الباكستان وتركيا، للنجدة، فطارت السيدتان الحديديتان بنازير علي بوتو وطانسو تشيللر إلى سراييفو، عملاً بمنطق: فليسعد النطق إن لم يسعد الحال…
ولعل السيدتين الرئيستين تشكران الله على أفضاله إذ لم تسقط تلك القذيفة الطائشة على عاصمة البوسنة خلال زيارتهما لها… وصحيح أن سقوطها بعد الزيارة يسيء إلى المعنويات والهيبة والدور، ولكن الصحيح أن ذلك كله لا يعدل نقطة دم، والسلامة غنيمة، وبعدها يمكن الحديث عن المعنويات..
“المشهد الإسلامي” يبلغ أروع تجلياته بتلك الصورة الناطقة لمذبحة سراييفو.
إنه يختزل الأوضاع التي يعيشها المسلمون كأفراد، كشعوب، ثم كدول: فلا رابطة جدية توحد بينهم في الموقف، ولا مصالح مؤثرة تحكم علاقاتهم بالقوى المؤثرة في العالم.
لم ينفعهم تبرعهم بالانتساب إلى النظام العالمي الجديد فور التبشير به، كما لم ينفعهم من قبل تبرعهم بالانتساب إلى كل الأحلاف التي أملت قيامها الاستراتيجية الغربية، بدءاً بحلف بغداد مروراً بالدفاع المشترك وصولاً إلى مشروع ايزنهاور…
إنهم غربيون أكثر من أهل الغرب نفسه.
تبرعوا لقتال الشيوعية فاندفعوا ليكونوا رأس الرمح الغربي، في مكافحة الالحاد ومختلف تفرعات الاشتراكية.
وتبرّعوا لقتال كل حركة تغيير، وكل تحرك ثوري محتمل، ووصلوا إلى حد التصادم المباشر مع الثورة الإسلامية في إيران.
أعطوا من دماءهم ومن مالهم فأبخلوا ولا ترددوا، وشاركوا في كل جهد حربي أو دعاوي طلبه الغرب.
برغم ذلك فلا هم وفروا المنعة لأقطارهم، ولا هم أمنوا فوق عروشهم، ولا هم يسروا أمر اللقمة لشعوبهم، ناهيك بأن الكرامة والعزة والسيادة ظلت في خانة المستحيلات.
ليست قذيفة “مسيحية” هي تلك التي سفحت دماء المسلمين في سراييفو.
فليس أكثر من القذائف المسلمة التي تقتل مسلمين.
ففي مصر، كما في الجزائر، يُقتل المسلمون برصاص “إسلامي”.
أما تركيا فمشغول جيشها المسلم بمطاردة آخر كردي مسلم داخل تركيا وداخل العراق وحتى داخل إيران، والطائرات التركية المسلمة أخطأت في الاتجاه فشنت وتشن غارات متلاحقة على شمالي العراق وتقتل بقذائفها المسلمة المسلمين.
وأما باكستان فمشغولة بعراكها الأبدي مع الهند حول المزيد من المسلمين المرشحين دائماً للموت بلا ثمن.
وأما أفغانستان فتوالي إبادة المسلمين فيها، وتوفد من المسلمين المتخرجين من مقتلتها المفتوحة من يقتل المسلمين في أل أرض.
إنه غلط في السياسة لا في الدين.
وهو يطاول الدين ويسيء إليه.
إنه في سراييفو الموقف السياسي للغرب، يعلن عن نفسه بدماء الضحايا، بما لا يحتاج إلى شرح أو تفسير.
لا تكفي العنصرية ولا حتى الصليبية لتفسير كل هذا “الحقد” و”الاستهانة” و”الدموية” في التعامل مع هؤلاء المحاصرين في ذلك “الجيب” المعزول.
ولكنه في بلاد المسلمين العجز، والتبعية والاستكانة للسيد، كائناً ما كان قراره أو مقفه.
إنها هزيمة للجميع… وهي هزيمة سياسية أولاً وأخيراً، ولن تنفع في تغطيتها الشكليات الإسلامية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان