أخيراً، وبعد ستين سنة من الحكم بالسيف ثم بالذهب والسيف معاً، اعترفت الأسرة السعودية الحاكمة برعاياها، ومنحتهم الحق في أن يكون من بين وجوههم وأعيانهم المؤدبين والمطيعين والطيعين “مجلس للشورى”.
ومع أن هذا القرار أو المنة الملكية تعتبر “إنجازاً” تاريخياً في المملكة التي كان يسودها الصمت الأبيض، ويختفي أي أثر “للشعب” فيها، بما في ذلك اللفظة نفسها، إلا أن بعض الحيثيات التي رافقت افتتاح أعماله تكاد تلغيه من قبل أن يكتمل عقده.
صحيح أن الملك فهد بن عبد العزيز قد اعتبر يوم الإعلان عن تسمية الأعضاء الستين في “مجلس الشورى” “من أعظم الأيام وأفضلها”، خصوصاً وقد رأى فيه “أكثر الأبناء والأخوان” منهم من عرفته من قديم الزمان، ومنهم من عرفته من عمله المفيد والبناء”..
… إلا أن الملك قد نسي أن يحدد الغاية من إقامة هذا المجلس ومهماته، اللهم إلا إذا كان اعتبر واجبه قاصراً على ما حدده: “كلنا في إطار واحد، والهدف واحد… وأرجو من الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويكفينا شر من فيه شر، وأن يحفظ هذه البلاد آمنة مستقرة عادلة ومنصفة”.
لم ترد كلمة “الشعب” مرة واحدة في النطق الملكي السامي، كما لم ترد أية إشارة إلى حق الشعب في المشاركة في الحكم، أو في إعلان رأيه في هذا الحكم وقراراته..
“مجلس الشورى”.. حسناً، الشورى في ماذا، وحول ماذا؟!.
ما هو الإطار الواحد؟! وماذا عن الهدف الواحد؟! لم يحدث مرة في التاريخ إن كان للحاكم (الملكي خاصة) والمحكوم الأهداف ذاتها، خصوصاً متى كان ممنوعاً على المحكوم أن يمارس حقوقه كمواطن، بل حتى كإنسان.
فأما نصرة دين الله فلا تحتاج إلى مجلس شورى، وكذلك إعلاء كلمته عز وجل.
وأما “كفاية شر من فيه شر” فهي بين مهمات الأجهزة الأمنية عادة، ولا تتولاها مجالس التمثيل الشعبي، الفعلي فكيف بالشكلي منها، وكيف يقدر هؤلاء العاجزون عن التقرير وعن المشاركة في الحكم وحتى عن ترشيده، أن يكفوا البلاد “شر من فيه شر”؟!
على أن الوجه الآخر للكلام الملكي سرعان ما جاء يفسر ما غمض من مراميه السامية، إذ قال بمنتهى الصراحة والوضوح: “لا يعنينا بأي حال من الأحوال من يعترض أو يقول: لماذا لا تكون انتخابات؟! الانتخابات بطبيعة الحال موجودة في العالم ولا أحد يعترض عليها، ولا لنا دخل فيها.. ولكن نحن نمشي في الطريق الذي أبانه كتاب الله العزيز، ورسوله وخلفاؤه الراشدون”.
لا يعني جلالته إذن من يقول: لماذا لا تكون انتخابات؟
وجلالته أكرم من ذلك: فهو بالمقابل لا يعترض على أن تكون الانتخابات موجودة في العالم.. وهذه منة ملكية أخرى، فهو لو اعترض لشطبت الانتخابات من القاموس السياسي المعاصر ومعها كل نضالات الشعوب من أجل أن تحكم نفسها بنفسها، وأن تسقط التصنيف العنصري الذي، يجعل الناس سادة وعبيداً منذ الولادة حتى الموت..
لكن جلالته حاسم في استنتاجه: هذا شأن لا دخل لنا فيه!.
وأخطر ما في الأمر أن يستند المنطق الملكي في رفض الانتخابات إلى كتاب الله وسنة رسوله الكريم وخلفائه الراشدين!
من قال إن الانتخابات حرام، وإن الإسلام يعتبرها رجس من عمل الشيطان؟!
من “ألغى” الناس، الشعب، الجمهور، القوم، الأمة، فأفتى بأن الإسلام لا يعترف بالبشر إلا كرعية خرساء للحاكم بالسيف أو بالذهب أو بهما معاَ؟ّ!
“هذا شأن لا دخل لنا فيه”..
هكذا، وبمنتهى البساطة، يسقط حق الشعب في أن يكون، وفي أن يعبر عن نفسه وطموحاته وحاجاته وتطلعاته، وأن يمارس حقه في تقرير مصيره.
لا انتخابات، إذن لا دور للشعب، بل لا وجود للشعب، ولا اعتراف به أصلاً.
و”مجلس الشورى” يفقد المعنى الذي أراد “الغرب” أن يفهمه منه كخطوة في اتجاه الاعتراف بالشعب وتمكينه من المشاركة في الحكم ولو من موقع الطرف الضعيف، بل الأضعف، بل هو إطار شكلي لتكريس حكم الأسرة بعد تزيينه ومن الخارج فقط، واستجابة للخارج، ولرفع الحرج عن الخارج، بواجهة أو عنوان لا نص تحته ولا مضمون له.
والرئيس المعين لمجلس الشورى المعين، وهو من بين طلائع الطيعين من الرعايا، الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير، يحدد لنفسه ولزملائه و”المؤسسة الجديدة” الدور بدقة: المجلس مستشار للملك!
مستشار برتبة مجلس شورى، بدل أن يكون برتبة وزير، مثلاً!
ولكن أين الشورى، وباسم من تعطى، ونيابة عمن؟ ولخير من؟ وطلباً لماذا؟
… والغرب، بلسان بعض مسؤوليته، يفرح باللعبة الجديدة، ويعتبرها إحدى الثمرات الطيبة للغزو الأميركي – الغربي باسم التحالف الدولي للجزيرة العربية والخليج.
لكأننا كنا “ضالين فهدى”، وكنا متخلفين فأنار لنا الطريق، وكنا مجافين للحضارة فحضرنا وأدخلنا نادي المتقدمين، فصارت السعودية تنافس السويد مثلاً أو الدانمرك أو حتى بريطانيا في ميدان عراقة التقاليد الديموقراطية وتقديس حق الشعب في أن يحكم نفسه بنفسه، واحترام حقوق الإنسان، رجلاً كان أم امرأة، شيخاً كان أم طفلاً، معارضاً كان أم مقاتلاً ضد النظام أم مجرد مرتزق يأكل من خبز السلطان ويضرب بسيفه؟!
في الغرب استقبلوا الإعلان عن مجلس الشورى بالقول: “إن انتشار قوات التحالف الدولي في الجزيرة والخليج قد أدى إلى إنهاء عزلة الرياض وعجل بالإصلاحات…”.
والغرب يقول: “إن حلفاء السعودية الغربيين يسعدهم أن يروا الرياض تتخذ خطوة نحو تنفيذ الإصلاحات بعد ستوات طويلة من العزلة..”.
هل من منافق أشر يبر ذلك الغرب ويتفوق عليه؟!
في غد، سترتفع أصوات في هذا الغرب إياه تقول أن الأسرة السعودية لم تتعلم شيئاً من دروس التاريخ، وإنها ستخسر مكانتها وعرشها بسبب تخلفها ومجافاتها لروح العصر.
وليس أخطر من هذه الخطوة السعودية الناقصة إلا هذا النفاق الغربي القاتل… ولو بعد حين!
ومتأخر هو التمني بأن يكون هذا المجلس محاولة للاعتراف بالحق الأدنى للشعب، للمواطن، في أن يعبر عن نفسه، وفي أن يكون له نصيب في حكم بلاده، وفي تقرير سياستها، وفي كيفية توزيع ثروتها الأسطورية.
أما أن تنتهي ستون سنة من المطالبة والوعود بإقامة مؤسسة هزيلة، بالتعيين المريح، لكي يضاف مستشاراً إلى مستشاري الملك ، فأمر لم يكن يستحق كل ذلك العناء.
وسلام على من أتبع الهدى…
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان