صارت إسرائيل طرفاً، وأحياناً شريكاً في القرار، في قلب معظم إدارات الحكم في العالم، بل إنها في بعض الحالات تتمتع بحق النقض “الفيتو” فتعطل أو تجيز توجهات أو سياسات لهذه الدولة أو تلك.
بالمقابلا يتلاشى التاثير “العربي”، الذي كان على الدوام محدوداً، ويندثر اهتمام “الدول” برد الفعل المحتمل عربياً، فيشطب “أكبر” العرب حجماً، ويتم التجرؤ على “أقدس القضايا” العربية، ويقع التدخل في الشؤون الداخلية لكل دولة عربية، تقريباً، ولمجموع هذه الدول علناً وعلى رؤوس الأشهاد بلا مراعاة لأية أصول دبلوماسية أو لياقات أو مداراة للحساسيات ولو من باب حفظ ماء الوجه.
فإسرائيل قوة ضغط وتأثير في قلب الكونغرس الأميركي، وفي قلب الإدارة الأميركية، وفي وزارة الدفاع الأميركية، وإجمالاً في القرار السياسي الأميركي.
وهي لا تتورع عن طرح نفسها قوة مقابلة للرئيس الأميركي داخل مؤسسة الحكم الأميركية،
كذلك فإن إسرائيل لعبت وتلعب مثل هذا الدور في أغلب دول أوروبا الغربية،
ومن جديد صارت “شريكاً مقرراً” في معظم الأنظمة “الليبرالية” الجديدة التي قامت على أنقاض النظام الشيوعي في دول أوروبا الشرقية،
وواضح إن إسرائيل تنافس الولايات المتحدة الآن على استقطاب القيادات “الغربية” الجديدة التي جاءت بها البروسترويكا أو استولدتها محاولة الانقلاب الفاشلة في موسكو.
هل هو التاريخ يعيد نفسه مقلوباً؟!
فبين “الذكريات” العربية إن الأنظمة التي كانت تريد “الوصول” إلى العالم الثالث و”بناء قواعد للصداقة” مع شعوبه كانت تبدأ خطابها السياسي بالاعتراف بالمرجعية السياسية العربية في القاهرة (قيادة جمال عبد الناصر)، وتعتبرها المدخل الشرعي إلى العرب جميعاً، بمن فيهم خصوم عبد الناصر ، وسائر أقطار آسيا وأفلاريقيا واميركا اللاتينية.
وفي وقت لاحق صار “الكفاح المسلح” الفلسطيني مصدر شهادات حسن السلوك للأنظمة الغربية عموماً ولتوجهات الدول الحديثة الولادة في العالم الثالث،
وكان ذلك يستتبع تحديد موقف مبدئي وعملي وسياسي واضح من الصهيونية ومن دولتها إسرائيل، ومن القوى الغربية الحاضنة.
ولعل أبأس التحولات – عربياً – إن إسرائيل اليوم تضع “العالم” في مواجهة العرب، فيصطدمون به ويتعثرون ويتساقطون وتتساقط مطامحهم وحقوقهم ومطالبهم المشروعة، أو إنهم يتخففون منها بذريعة تحاشي الرفض العالمي أو الظهور بمظهر “الشوفيني” المتعصب أو “الأصولي” المتهم بالإرهاب!
على أن أبأس النتائج إن ما خسره “العرب” مجتمعين لم يحقق ربحاً لأي نظام من أنظمتهم منفرداً، ولم تعوض “الكيانية” شيئاً مما كانت توفره “القومية”، ولم تضمن السلامة لأي هارب من أعباء عروبته، فلقد بقي الكل “عرباً” في العين الغربية، وأساساً في العين الإسرائيلية.
مع ذلك استمرت عملية “الستربتيز” التي يقوم بها بعض “العرب” تنصلاً من “أثقال” ماضيهم “القومي” كما من موجبات مستقبلهم الذي يريدونه “كيانياً”. فثمة الهارب بأمنه إلى الغرب، والهارب باقتصاده وموارده الطبيعية إلى الغرب، والعارض تبعيته السياسية على الغرب… وبالكاد توافق واشنطن على منح بعض هؤلاء “حق اللجوء” وتؤمنه من “المعتدي العربي” وفقط من “المعتدي العربي”،
وفي نادي اللاجئين طلباً للأمن والأمان من “العرب” في واشنطن يتوفر الأساس الموضوعي للتلاقي مع إسرائيل التي رأت وترى وستبقى ترى في “العرب” عموماً ولاسيما أقواهم بشعبه أو بجيشه أو بموارده أو بها جميعاً، أعداء ومصدراً للخطر الدائم.
بل إن إسرائيل بذاتها تغدو، في حالات معينة، مصدر أمن وأمان لهؤلاء الخائفين من “أخوانهم” العرب الزاحفين عليهم بالدبابات وطوابير الجائعين من العساكر والميليشياتز
وبغض النظر عن العواطف والمشاعر القومية والروابط “القديمة”، فإن هذه السياسات العربية تعبّر عن قصر نظر فاضح، وهي لا تؤدي – عملياً – إلا إلى الانتحار.
فلا سلامة للكويت، مثلاً، في ظل مصر ضعيفة، أو سوريا محاصرة ومستنزفة، وليبيا مهددة بالاجتياح، وجزائز منهكة بحرب التجويع، ومغرب يستوطن الأقصى حتى يعطل دوره وتسقط عنه المسؤولية.
كذلك فإن تمزيق العراق وتدمير موارده لا يؤذي صدام حسين بقدر ما يؤذي منطقة االخليج العربي برمتها ومجموع الأمة. والمساعدة الحقيقية للعراق تكون بتأمين شعبه وحماية وحدته وتوفير الدعم لقواه الحية في نضالها لإسقاط صدام حسين.
واستطراداً فإن مؤتمراً للسلام تدخله الدول العربية مفككة وضعيفة تفتقد الحد الأدنى من الوحدة في موقفها والتماسك حول الحد الأدنى من مطالبها المشروعة (كدول) لن يكون بنتائجه ضمانة للدول العربية الأخرى الغائبة عنه أو القابلة بأن تحيد أو بأن تتحوّل إلى شاهد زور.
وإضعاف الموقف الفلسطيني، ومن ثم التمثيل الفلسطيني، وصولاً إلى الحقوق المشروعة للشعب الفلطسيني، لن يكون مجرد انتقام رخيص من قيادة المنظمة أو رد على نهجها المنحرف وتورطها مع هذا النظام أو ذاك، بل هو سيكون خطأ سياسياً باهظ التكاليف وسيدفع المتسببون فيه ثمناً يتجاوز طاقتهم في المستقبل.
فليست “تسوية” يمكن أن يطمئن إليها العرب الخائفون من إسرائيل تلك التي تصوّرهم متسامحين معها قساة على أنفسهم – ضحاياها أي أخوتهم الفلسطينيين.
ستظل إسرائيل إسرائيل، وسيظل الفلسطيني فلسطينياً وعربياً. وسيظل الكيانيون عرباً في العين الإسرائيلية، وقوى حرب لا بد من تعطيلها أو تدميرها.
ومن شروط “مؤتمر السلام”، لكن ينجح، أن يكون العرب طرفاً واحداً فيه، وقوياً، حتى إذا كان الطموح توظيف هذه القوة المحتملة في إطار “الضغط” المرجو من الولايات المتحدة على إسرائيل.
وإضعاف العرب ينسف المؤتمر تماماً كزيادة قوة إسرائيل، الزائدة عن حدها أصلاً.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان