مع النتائج البائسة للجولة العاشرة من المفاوضات المتعثرة بين العرب و”عدوهم” الإسرائيلي، لم تجد الإدارة الأميركية بداً من تخطي العديد من الحواجز الدبلوماسية والسياسية والظهور على المسرح بوصفها “المفاوض” الفعلي، أقله للعرب الذين بدأوا يتشككون الآن في إنها تخص الإسرائيلي فقط بموقع “الشريك الكامل”.
وفي حين كان العرب يطلبون من واشنطن دور “الشريك الكامل” في ظل إدارة بوش فتمتنع عنه مكتفية بدور “الوسيط النزيه” و”قوة الدفع”، فإنهم اليوم يفتقدون الوساطة والنزاهة وقوة الدفع معاً.
بالمقابل فإن واشنطن التي “فاوضت” فعلياً وعلى مدى شهور من أجل إعداد الإطار القانوني والسياسي لمؤتمر مدريد، والتي وفرت – للعرب تحديداً – جواً من الثقة عبر رسائل “التطمينات” الشهيرة، تكاد تتحلل اليوم من كل الموجبات التي أخذتها إدارة بوش – بيكر على نفسها. لتفرض سياقاً جديداً لا يستطيع قبوله أكثر العرب استعداداً للتنازل.
وشتان ما بين رحلات جيمس بيكر إلى المنطقة، قبيل مدريد ثم في الفترات الفاصلة بين جولات المفاوضات، وبين هذه الرحلة – الإنذار التي يقوم بها الآن الموفدان الأميركيان دنيس روس ومارتين أنديك، وسط جو شبه حربي بما يتضمنه من تهديدات مضمرة أو معلنة للأطراف العربية.
وليست القذائف والصواريخ الإسرائيلية التي تحرق جنوبنا الآن، مرة أخرى، إلا الترجمة العملية للمناخ الإرهابي الذي فرضته إسرائيل على الجولة العاشرة، ومع الأطراف العربية المعنية: الفلسطيني والسوري واللبناني،
ومفهوم، بل وضروري ان يتصاعد جهد المقاومة المباركة كرد طبيعي ومحدود على التعنت الإسرائيلي، بل وعلى الإهانات التي استمرأت الوفود الإسرائيلية توجيهها إلى الوفد العربية، والصف الذي يجعل إسرائيل ترفض الاعتراف – مجرد الاعتراف!! – بأنها قوة احتلال.
فلولا هذه العمليات الباسلة التي يقوم بها النفر الغر من شبابنا توكيداً على تمسك اللبنانيين بأرضهم (والعرب عموماً بحقوقهم) لكان الاستقواء الإسرائيلي بالممالأة المفضوحة لإدارة كلينتون قد تمادى فأوصل جند الاحتلال إلى قلب بيروت ودائماً بذريعة تأمين السلامة للمستوطنات اليهودية في الجليل المحتل!
وفي أي حال فإن الإنكار الإسرائيلي الوقع، في المفاوضات، لواقع الاحتلال في الجنوب، والإصرار الفظ على تنازل هذا الواقع كمشكلة بحث أمنية، له فتك وتدمير أين منها قذائف المدفعية والصواريخ الإسرائيلية!
ثم إن إدارة كلينتون قد نابت، في الجولة العاشرة خاصة، عن الإسرائيلي في مفاوضة العرب، فهي قد تصدت لتحديد سقف المطالب الوطنية الفلسطينية، بما يمس أبسط الشروط الطبيعية لأي شعب أو حتى لأية “أقلية” عرقية فيأرضها كما إنها قد “شاركت” بهذه النسبة أو تلك في صياغة أوراق العمل الفظة التي قدمها الوفد الإسرائيلي للوفد اللبناني، وعززت الهجوم الإسرائيلي على الموقف السوري الثابت بقصف بعيد المدى تولاه مجلس الشيوخ الأميركي مستهدفاً سوريا عبر علاقتها المميزة بلبنان.
وإذا كانت “يهودية” الموفدين الأميركيين معروفة ولا تشكل “عورة” فإن تطرف مارتين أنديك في صهيونيته ليس – في هذه اللحظة – أمراً شكلياً أو موقفاَ شخصياً يمكن إغفاله أو التغاضي عنه، خصوصاً وإن الحبر لم يجف بعد في التقرير الذي رسم فيه لبيل كلينتون سياسته حيال “الشرق الأوسط” برمته!
إن واشنطن أخرى هي التي تفاوض العرب اليوم،
وإذا كان ثمة بين العرب من وصف إدارة بوش – بيكر بأنها الأقل صهيونية في تاريخ الولايات المتحدة، فإن تصرفات الإدارة الجديدة (كلينتون) تجعلها تستحق مرتبة الأكثر صهيونية في تاريخ تلك البلاد التي أوصلتها خطايا خصومها إلى الهيمنة على الكون.
لكأنه فرض على العرب أن يفاوضوا إسرائيل مرتين وعلى مستويين: أعلى وأدنى، فإذا رفضوا الأولى لتطرفها اصطدموا بالثانية التي مهما “تنازلت” ستظل تطلب منهم ما لا يقدرون على التنازل عنه لأنه يلغيهم.
لكأنه “الهجوم الأميركي الشامل” على الأطراف العربية جميعاً بعدما فشلت الهجمات الإسرائيلية المتكررة على كل جبهة عربية (مفاوضة) على حدة.
والنار الإسرائيلية في جنوب لبنان تبدو وكأنها إعلان مدو عن مرحلة ما بعد مدريد، أو عن طور جديد لمؤتمر مدريد لم تلمح إليه ولم تتنبأ به رسائل “التطينات” الأميركية.
وأول ما تحرق النار الإسرائيلية، في جنوب لبنان اليوم، تلك “التطمينات” الأميركية، وبحضور الإدارة الجديدة في ثوب “الشريك الكامل”.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان