حسناً فعلت “الجبهة اللبنانيةط إذ قررت تلبية الدعوة الموجهة إليها من اللجنة السداسية العربية للقاء بها غداً في الكويت،
إن مجرد التلبية يساهم في إعادة الأمور إلى نصابها، ولو نسبياً: فالأزمة في لبنان سياسية أولاً وأخيراً، وحلولها العتيدة لا يمكن إلا أن تكون سياسية.
ثم إن اللقاء يكمل المرحلة الأولى من مهمة اللجنة العربية، أي الاستماع والاستقصاء وتجميع الآراء والمقترحات والتصورات، بحيث تتكامل اللوحة المعقدة للصراع بين الأطراف اللبنانيين حول النظام السياسي القائم، طبيعته ووظيفته ووجوه الخلل والنقص فيه، وبالتالي ضرورة الاصلاح.
لقد استمعت اللجنة إلى من يقول بتجميد الوضع على ما هو عليه (العماد ميشال عون)، بشرط أن يتم تقنين المؤقت وتشريعه بحيث يصير دائماً وغير مطعون في شرعيته،
كما استمعت إلى من يطالب بإعادة الوضع إلى ما كان عليه عشية الانتخابات الرئاسية التي لم تتم في موعدها الدستوري (قبل 23 أيلول 1988)،
واستمعت إلى من يطالب بالتغيير، محدوداً وعلى مراحل، أو فورياً ودفعة واحدة بحيث تقبر صيغة 1943 ويتم استيلاد جمهورية جديدة من بين ركام النظام القديم المنهار.
وهي غداً ستستمع إلى المحامي الشاطر المتولي الدفاع عن الصيغة الفريدة والنظام الذي لا نظير له في الدنيا، ولا بديل، طالما استمر لبنان كياناً لا وطناً، السيادة فيه لأقلية ممتازة لها الرئاسات جميعاً، من دون الخلق، ولها حق النقض أو “الفيتو” لأن مجد لبنان أعطي لها…
على إن اللجنة – وبغض النظر عن عواطف رئاستها والأعضاء – ستتأكد، عبر اختلاف الآراء وتعارضها كما عبر التقاطعات بين “المتطرفين” على الجانبين، إن الأزمة سياسية وداخلية أولاً وثانياً وثالثاً، ثم تجيء العوامل الأخرى، الخارجية، العربية منها والإقليمية والدولية.
الأزمة سياسية بدليل إن لبنان بلا رئيس للجمهورية، وليس في الأفق ما يبشر بموعد لانتخابات تملأ هذا الشغور في سدة الحكم.
… وإن لبنان ، بالاستطراد ، بلا حكومة، تتولى أو تباشر السلطة فيه بقوة تمثيلها للرأي العام، أو تعبيرها عن مطامحه كما يجسدها المجلس النيابين
… وإن لبنان، بالاستطراد أيضاً، معطل مجلسه النيابي (المشلول أصلاً والذي يستمر بقوة الخوف من الفراغ)،
… وإن لبنان بلا مؤسسات وأجهزة شرعية تجسد الدولة وإدارتها وتملي إرادتها باسم شعبها وحماية لأرضه ولمصالحه المشروعة.
فكيف يمكن في بلد هذه ظروفه أن تطرح قضايا خطيرة وشائكة كمثل الوجود العسكري السوري الذي فرضت طبيعة الأزمة ذاتها الاستعانة به لأن الجمهورية اللبنانية بمؤسساتها وأجهزتها وإدارتها عاجزة عن القيام بمهماتها وممارسة دورها وبسط سلطتها الشرعية على أرضها؟!
ومع إن طروحات “الجبهة اللبنانية” ستكون، على الأرجح، متطرفة، لاسيما وهي تقولها تحت ضغط دوي المدافع، فإن الاستماع إليها مفيد، إضافة إلى كونه ضرورياً وموجباً، لأنها ستؤكد قوة العامل الداخلي في الصراع حتى وهي تجتهد لكي تنفيه.
وربما لعبت الشخصية المتزنة للدكتور جورج سعادة دورها في تلطيف التطرف ومحاولة إضفاء مسحة من المنطق على الطروحات غير المنطقية للتيار الذي تمثله “الجبهة”، والذي يرى امتيازات الطائفة العظمى أبقى من حقوق الوطن والمواطن.
لكن تجليات الأزمة السياسية في لبنان ستظل واضحة لا يستطيع على طمسها التطرف في الداخل أو الرعونة الفرنسية الآتية من وراء البحار، فرئاسة الجمهورية شاغرة، برغم إن العماد عون يتحصن في ملجأ القصر الجمهوري في بعبدا معطلاً بوجوده وبهوسه اللعبة الديموقراطية ومن ثم الانتخابات الرئاسية.
ووجود “حكومتين” ينفي وجود “الحكومة” ذات السلطة الجدية على كل لبنان،
كما إن وجود “جيشين” ينفي وجود “الجيش” كإحدى المؤسسات – الركائز للدولة.
ووفد “الجبهة” لا يمكنه أن ينفي إن ثمة عوامل وقوى محلية، معظمها موجود وفاعل في “الشرقية” لعل أبرزها وأخطرها العماد – قائد الجيش ميشال عون، هي التي عطلت إجراء الانتخابات على امتداد فصل الصيف الماضي،
كذلك فلا يمكن لهذا الوفد أن يتهم الوجود العسكري السوري بأنه سبب التعطيل، خصوصاً وإن المرشحين الجديين – وميشال عون منهم – لا يطلبون من البركات إلا بركة دمشق، ولا يتعهدون بشيء قدر تعهدهم بتقنين أو تشريع العلاقة المميزة مع سوريا انطلاقاً من احتياجاتها الأمنية والعسكرية.
حتى مطلب الاصلاح السياسي لا يمكن للوفدن ولرئيسه المتزن خاصة، أن ينكر ضرورته، أو أن يعتبره مجرد بدعة دمشقية وذريعة لاستمرار الوجود العسكري السوري في لبنانز
فمطلب الاصلاح السياسي قديم قدم الاستقلال تقريباً، بل قدم إنجاز الجنرال غورو في رسم خريطة الكيان السياسي اللبناني، لم تستقدمه القوات العربية السورية معها بل لعل دخولها قد تم – مع نهايات العام 1976 – على حسابه وتحت لافتة تطمين الخائفين منه.
ربما سيحاول وفد “الجبهة” استئخار الاصلاح السياسي مدللاً إن إجراء الانتخابات له الأسبقية بحكم الضرورة،
لكن هذا الوفد، برئيسه المتزن، لن يستطيع المكابرة والادعاء بإمكان إجراء الانتخابات الرئاسية في ظل شعار “التحرير” المعقود اللواء للمتحصن في ملجأ القصر الجمهوري،
… أو الادعاء بإمكان إجراء الانتخابات إذا ما قررت دمشق أن تصدع لأوامر “الضابط الصغير” فتسحب جيشها من لبنان على الفور.
ونفترض إن الدكتور جورج سعادة سيذهب للقاء اللجنة العربية بدافع حرصه على المساعدة على ابتداع حل للأزمة اللبنانية، وليس من أجل تعقيدها، خصوصاً وإن “الضابط الصغير” لا يحتاج إلى أية مساعدة في التعقيد ودفع البلاد وشعبها إلى حافة الانتحار،
ومن حظ الدكتور سعادة، ومعه وفد “الجبهة اللبنانية” إنهم سيجلسون إلى اللجنة العربية، غداً، وبينما نذر تجدد الحرب تملأ سماء لبنان، ذلك إنهم مهما قالوا سيظهرون عقلاء وأهل حكمة، بفضل عنتريات “الضابط الصغير” ورعونته الانتحارية.
العودة إلى اللجنة العربية،
العودة إلى الوعي بحقائق الحياة،
العودة إلى العقل، إلى جوهر الأزمة والأسباب الفعلية للصراع القديم،
تلك هي الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح، وبعد ذلك يكون على اللجنة العربية أن تكمل المشوار، نحن الحل المنشود، الذي لا يمكن أن يكون إلا عربياً، ومستوعباً للأسباب الداخلية للأزمة السياسية.
أما الهوبرات الفرنسية والتصرفات النزقة وغير المسؤولة فلا تأخذنا إلا إلى حرب بلا نهاية، سيكون اللبنانيون ضحاياها، بغض النظر هل هم من أنصار “الجبهة اللبنانية” أم من خصومها التاريخيين،
… ولكم هي مفارقة مؤلمة أن يكون ابن الدولة وأعلى موظف في إحدى أخطر مؤسساتها التوحيدية (الجيش) أبعد عن روح الوحدة من ابن حزب الكتائب ووريث آل الجميل في هذه المؤسسة التي ما كانت لتنوجد لولا العيوب الفظيعة في النظام السياسي،
وبعد ذلك تناقشنا في ضرورة الاصلاح يا الشيخ صباح؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان