برغم القدرات الخارقة لواشنطن فإن الوهم خارجها يظل وهماً فيها حتى لو كان المروّج أو بائع الأوهام أفصح “بنادرة العرب” واقدرهم على الإقناع المذهب.
وليس مأساوياً أن تنهار السمعة الوطنية لهؤلاء “البنادرة” الذين لم يشتهر عنهم حب الوطن أو افتداء الأرض بالروح أو القول بالكفاح المسلح أو حتى بالصمود السياسي طريقاً لمقاومة المحتل واستنقاذ التاريخ والكرامة والهوية القومية.
لكن المأساوي أن ينجح “البنادرة” في استدراج الفلسطينيين إلى سلسلة من المآزق السياسية الخطيرة التي تفقدهم الدنيا والآخرة، ولعل أكثرها حدة هذا الذي يواجهونه في واشنطن اليوم.
بين الأوهام أن “البنادرة” أقوياء في واشنطن وأقوياء بها على إسرائيل، بحيث يمكنهم “تحييدها” أو توظيفها “كحكم نزيه” في الصراع العربي – الإسرائيلي، شرط أن يجنح العرب إلى السلم وأن يُسقطوا رايات الثورة وأن ينبذوا العنف ويلوحوا بأغصان الزيتون لجنود الاحتلال وهم يقيمون – على أنقاض بيوتهم – المزيد من المستعمرات ليحلوا فوق أجداث جدودهم المستقدمين الجدد من “يهود الشتات”،
ففي اللحظة الحاسمة نفضت واشنطن يدها، وأدارات وجهها، ومطت شفتيها تاركة الإسرائيليين يفرضون شروطهم اللاغية للمفاوضات!
وبين الأوهام التي روج لها “البنادرة” أن التخلي عن كامل فلسطين أو عن معظمها، وبالطبع عن أحلام التحرير وإقامة الدولة الخ، هو وحده الطريق إلى الحقوق المشروعة للفلسطينيين،
فالحكم الذاتي يفضل الوطن والدولة، وبعض الشعب يغني عن مجموعه، وأقل الأرض يعوض جلها الذي ضاع أو هو على وشك أن يضيع،
هكذا، وبعد أربع سنوات من الانتفاضة المجيدة يكتشف الفلسطينيون، ومن دون مفاجآت صاعقة، إنهم وصلوا “بتذكرة خط واحد” إلى واشنطن وليس إلى القدس الشريف، بل ربما على حساب أولى القبلتين وثاني الحرمين،
وبعد ثماني وعشرين سنة من قيام منظمة التحرير الفلسطينية، كإطار سياسي لتعويض “الدولة”، يغسل “بنادرة العرب” أيديهم من دماء هذه المنظمة التي طالما رعوا قيادتها ومولوها وأغووها فأقنعوها بأن منتهى التنازل لواشنطن هو هو منتهى الإحراج لإسرائيل، فإذا إسرائيل تأخذ التنازلات بلا مقابل وإذا بواشنطن تمتنع عن مكافأة المتنازلين ولو بجائزة ترضية.
وبعد سبع وعشرين سنة من إطلاق الرصاصة الأولى على طريق تحرير فلسطين بالكفاح المسلح، يسعى “الثوار القدامى”، وقد هدهم التعب والضياع، إلى مظلة أردنية تؤمن لأهل الداخل، ممن لم ينجحوا في تحريرهم، مقعداً في قاعة التفاوض مع العدو الإسرائيلي، بثمن يتجاوز الأرض وحقوق أهلها في ممارسة إنسانيتهم فيها.
ولا تقال هذه الكلمات من باب اللوم أو التأنيب أو التشفي، لا سمح الله،
ولكنه الإشفاق على الحاضر، والمستقبل، حاضر العرب جميعاً ومستقبلهم جميعاً،
“فالبنادرة” الذين لم يقبلوا يوماً منطق التحرير، ولم يسلموا به إلا خوفاً وتهيباً، يعملون الآن وبسرعة لوأد فكرة الثورة مستقبلاً، وهم في هذا أصحاب غرض وأصحاب مصلحة تتقاطع بالضرورة مع الأميركيين وحتى مع الإسرائيليين،
إنهم يمنعون عن رعاياهم ما يتجاوز “حقوق” المحتلة أرضهم. إنهم ضد حقوق الإنسان في الأقطار التي يحكمون، فكيف سيناصرونها في “الخارج” القريب إلى حد التداخل مع “داخلهم” الهش والمقموع بالحديد والنار؟!
والخوف كل الخوف أن يخسر الفلسطينيون ومعهم سائر العرب في هذه المفاوضات الصعبة والملغمة ما لم يخسروه بالحرب، أو في مجموع الحروب باسم فلسطين ومن أجلها.
وهو خوف يؤكده الانقسام العربي، داخل المفاوضات وخارجها، بأكثر مما يؤكده التعنت الإسرائيلي، بل لعله السبب الأبرز للتعنت الإسرائيلي والاندفاع به إلى ذروته القصوى.
فإسرائيل تتعامل مع المفاوضات وكأنها أصعب الحروب، وآخر الحروب قبل النصر المطلب على العرب المستسلمين بالمطلق،
أما “بنادرة العرب” فيريدونها مقبرة الاحتجاج العربي على الظلم والعسف والقمع والاضطهاد، مقبرة كل أنواع الرفض والمعارضة والاعتراض، بالسيف أو باليد أو باللسان أو بالقلب وهو أضعف الإيمان.
مع ذلك فما زال الفلسطينيون يملكون الفرصة لتعديل الميزان، فهم على ضعفهم اقوى بما لا يقاس من “بنادرة العرب” وحتى من الإسرائيليين الجبابرة.
وهم مكمن قوة العرب المتفرّقين والمنقسمين في “غياب” فلسطين وانطفاء وهجها،
وهم كعب أخيل النظام العالمي الجديد،
ولن تكون مفاوضات من دونهم ولا معاهدات ولا سلام،
والسلام على من أتبع الهدى.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2025 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان