لم يكبر حاكم ببلاده كما كبر حافظ الأسد بسوريا،
ولم يسع حاكم لأن تكبر به بلاده كما سعى حافظ الأسد لأن يكون إضافة إلى رصيد سوريا، ولقد نجح فاستقر شامة على خدها وصفحة مشرقة في تاريخها الحديث، خصوصاً وإنه قد عوضها الكثير مما كانت تفتقده من حقوقها ومن مكانتها المضيعة.
فاللبناني الذاهب إلى سوريا، وخلفه تركة الحرب الأهلية الثقيلة، يغبطها على نعمة الاستقرار التي يعرف إنها ثمرة طبيعية لوجود دولة قوية بينما هو يتشهى أي وجود أو تجسيد لفكرة الدولة التي لو كانت قائمة فعلاً لما انفجرت الحرب المهلكة ولما تمادت بحيث كادت تذهب بمقومات وجود الكيان الفريد،
والأردني القادم إلى سوريا، والذي لا ينقصه الشعور باستقرار الحكم، يغبطها على نعمة الازدهار وعلى نجاحها في بناء بنية تحتية ممتازة، وعلى النهوض بالصناعة والزراعة مع الحفاظ على السمعة التجارية الممتازة،
أما العراقي القادم إلى سوريا، مخلفاً وراءه ذلك النظام الذي أفقر أحد أغنى أقطار الدنيا في موارده الطبيعية، والذي تسببت حماقاته وتهوره وهوسه بالسلطة في تدمير أهم قدرات العرب العسكرية وأعز شعاراتهم القومية، فإنه يغبط أشقاءه السوريين على ما تتمتع به قيادتهم من حنكة وحسن قراءة للخريطة الدولية ومن براعة في استنقاذ سوريا وتحصينها في وجه مخاطر لا حصر لها من دون تنازلات مذلة أو التحاق مهين بأسياد النظام العالمي الجديد،
وأما المصري الآتي إلى سوريا وفي صدره غصة مما فرض على بلاده العظيمة من قهر ومهانة وشروط قاسية تمس سيادتها وعزتها وتكاد تلغي دورها الذي لا يعوضن فيغبط أشقاءه السوريين على المكانة الممتازة التي تتمتع بها بلادهم “الصغيرة” على المستويين العربي والدولي، متمنياً لو كانت قيادة بلاده تبدل في سياستها بحيث تحظى بما تحظى به القيادة السورية من احترام وتقدير لذكائها إضافة إلى التزايد المضطرد في رصيدها الوطني والقومي.
وأما “العربي” العائد من أوروبا أو من الأميركيتين بمرارات هائلة مبعثها شعوره بالانسحاق تحت وطأة الخيبة والهزيمة والفجيعة بالحكام الميامين الذين لا يمكن الدفاع عنهم كأشخاص، ولا عن سياساتهم، والذين يشكلون عنصر إحراج بل سبباً لإحساسه العميق بالذل، فإنه يستثني دائماً حافظ الأسد، حتى لو لم يكن من محبيه أو من المعجبين به، لأنهم “هناك” يستثنونه ويعاملونه معاملة أخرى فيها من التهيب قدر ما فيها من الإعجاب بدهائه السياسي.
وهكذا يكون حافظ الاسد، الذي استنبتته سوريا من مواجعها ومن مواطن إحساسها بالقهر الطويل، قد وفر لبلاده الكثير من أسباب القوة والتماسك التي كانت تفتقر إليها:
*لقد وفر لها “الاستقرار”، بعد دهر من الاضطراب والشقاق الداخلي والضياع بين المعسكرات، العربية والدولية، المصطرعة عليها. فسوريا حافظ الأسد لم تعد مجرد أرض لصراع الآخرين، بل هي طرف أساسي في الصراع مع أقوى الآخرين الطامعين بالمنطقة،
وهل من مديح لحافظ الاسد، حتى لو جاء من خصم أو كاره، أكثر من القول أنه يصارع رئيس الولايات المتحدة الأميركية أو يقاسمه في حين أن رؤساء الدول الكبرى يتزاحمون على جورج بوش بطلبات الالتحاق وطلب الرضا والعفو عما تقدم من ذنوبهم أيام الشيوعية والمعسكر الاشتراكي والحرب الباردة؟!
*كذلك فقد وفر لها ما كانت تتشوق إليه من اكتفاء بل وجعلها تشارف مرحلة الازدهار الاقتصادي، لم تعد سوريا بلداً فقيراً ينظر إلى الأقطار الغنية أو المزدهرة، بالنفط أو بالسياحة، بحسد وكثير من الضيق. إنها الآن تصدر نفطاً وفاكهة، وتصنع الغاز كما “الآغاباتي”، وتستقبل السياح والمصطافين، وتملك شبكة طرق ممتازة، وصار اللبناين المتأنق يذهب لشراء ملابسه منها. ولم تعد طوابير السيارات تقف أمام المتاجر الكبيرة في شتورة ليشتري السوري المحروم كل شيء بدءاً بمستحضرات الغسيل وصولاً إلى الفيديو مروراً بالبسكويت والليلمون الحامض وزيت الزيتون!
*ثم إنه جعلها دولة قوية، بقدراتها العسكرية كما بمرونتها السياسية، والأهم بمتانة وضعها الاقتصادي. وهو لم يضيع جيشها في مغامرات بلا طائل، بل جعله رصيداً لطموحاتها وعاملاً مكيناً من عوامل وحدتها وعنواناً لدورها القومي المشروع، وهو دور تكاد تنفرد بمهماته في غياب الأقطار الأخرى التي كانت مطالبة به أو متصدية له أو منتدبة بحكم الموقع والعدد للعبه.
*كذلك فإن حافظ الاسد الذي أصابته سهام الاتهام المسمومة في كل مكان حتى تكسرت على بعضها، قد حقق لسوريا مكانة عربية ودولية لم تحظ بها في أي يوم من تاريخها الحديث أو القديم، إذا ما تجاوزنا بعض مراحل الحكم الأموي وبعض مرحلة صلاح الدين الأيوبي.
من دون أن ننسى أمراً مهماً: أن معاوية بن أبي سفيان كان، إلى حد ما، كالوارث، يتصرف برصيد جمعه غيره وبهر به الدنيا، في حين أنه كان على حافظ الأسد أن يبدأ من الصفر، بل من تحت الصفر بكثير إذا ما استذكرنا من كان يحكم سوريا قبله وكيف.
لقد أنجبت سوريا قائداً عربياً، فذلك الضابط المتحدر من أصول ريفية متواضعة في القرداحة، القائمة على كتف اللاذقية، هو اليوم مركز دائرة، وليس مجرد حاكم قوي. إن الناس قد ينقسمون حوله، بالعاطفة، لكن أحداً لا ينكر عليه مكانته أو كفاءته أو حنكته أو دهاءه أو قدرته على الاستمرار وسط التقلبات والتحولات التي أنهت معسكرات ودولاً عظمى وأيديولوجيات صنعت أعظم الثورات في التاريخ.
ومبروك لحافظ الأسد ولايته الرابعة،
واللبنانيون، من بين العرب، هم الأكثر اغتباطاً بهذه المناسبة التي قد تعدهم بشيء مما نعمت به سوريا: الاستقرار والازدهار والمكانة والدور والمنعة… وكلها بالنسبة إليهم تتجاوز الأمنيات إلى الأحلام السنية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان