كثيرة، بعد، الأسئلة الساذجة عن الدولة وموقفها، وهي لم تتناقص مع الرسالة الجديدة التي وجهها الرئيس الياس سركيس، أمس، بل لعلها تزايدت.
… مع التقدير لروح التفاؤل التي تخللت بعض سطورها على استحياء وفي سياق التمني وليس التعهد.
1 – ألم تنكشف بعد، لأصحاب البصائر وللراغبين في المعرفة، أهداف التوتير الأمني المحدود والمقصود والمحصور في نقاط معينة يكاد لا يتجاوزها؟!
وما معنى أن تظل نقاط التواصل والاتصال بين فئات الشعب، وبين أطراف المدينة الممزقة هي وحدها المسيطر عليها بالقنص (مع قصف متقطع بين حين وآخر ضماناً لاستمرار الجمر حياً تحت الرماد)؟!
ولماذا يسود الهدوء وتزدهر الأعمال والأموال ومختلف أنواع التجارة والمضاربات على بعد لا يتجاوز بضع مئات من الأمتار عن “خطوط التماس” و”النقاط الملتهبة” و”خط النار” الذي عاش أكثر مما عاشت الجبهات الرئيسية في الخروب العالمية جميعاً؟!
إن جونيه بألف خير، وشبر الأرض فيها يساوي أكثر من حبات ترابه ذهباً، وميناءها مزدحم ولله الحمد ببواخر السلاح والزجاج والقماش الأسود والذخائر والمواد التموينية.
ومثل جونيه كسروان كلها، والمتن الشمالي، وبعض أنحاء بلاد جبيل…
فلماذا “السخونة” إذن على الجسرين الشهيرين، ناهيك بالجسر الواطي والشيفروليه وغاليري سمعان؟!
إنها “معضلة” عجز عقل المواطن العادي عن حلها: فلو كان “الناس” في ما وراء “خط النار” راغبين في استمرار الحرب ومستنفرين لها وعلى سلاحهم لما ازدهرت في ديارهم أنواع التجارة والشطارة والسمسرة والاستيراد والتصدير، ولما تزايدت أماكن اللهو والسهر والسمر والتسليات “البريئة” في أندية القمار “غير الشرعية”.
ثم إن هؤلاء “الناس” لا يضيقون بشيء ضيقهم بخط النار هذا، وهم يتحينون الفرص “للتسلل” إلى المنطقة الغربية، أو إلى دمشق وسائر العواصم العربية، لعيشوا وليعملوا تاركين للمجالس الحربية مهمة “القتال لتحرير آخر شبر في لبنان” من “الدنس العربي”.
فلماذا لا تستقوي الدولة الضعيفة بهؤلاء المستضعفين الذين يشكلون هناك (كما هنا) الأكثرية الساحقة الماحقة من رعاياها ومواطنيها.
صحيح أن هؤلاء غير مسلحين، لكنهم مستعدون لأن يصبحوا قوة ضاربة عظمى إذا هم أحسوا أن الدولة معهم، وإنها راغبة في استعادتهم إلى إفيائها بدلاً من أن تدفع مثلهم “الخوة” لفارضي الخوة، وتشرب – مثلهم – كأس التهجير حتى الثمالة، فترحل تاركة المراكز والمرافق وكل ما هو “مال عام” للقادر على نهبة بقوة السلاح.
مع استدراك بسيط: إن هؤلاء “الناس” ليسوا بغير قيادات سياسية، وهذه القيادات لها جذورها فعلاً في أوساطهم، وهي مع الدولة قلباً وقالباً بحكم المصلحة والعاطفة وطبيعة الولاء، ولكنها لا تنفع ولا يمكن أن تكون بديلاً عن الدولة وشرعيتها.
إن ليلة رأس السنة بكل ما حفلت به لم تكن “ليلة جنون” بالمطلق.
لقد كان فيها، إضافة على الجنون “اللبناني” الشهير، إعلان صريح بالرغبة الجامعة في العودة إلى الحياة الطبيعية. وكانت هذه الرغبة متساوية ومتكافئة في الشرقية وفي الغربية. عند اللبناني كما عند الفلسطيني، والسوري والسوداني و…
2 – كثر الحديث عن التوطين، حتى صار جزءاً لا يتجزا من خطاب أي مسؤول ومن نص أية وثيقة رسمية، وتهاطلت الاستنكارات وتصريحات الشجب من كل حدب وصوب… ولكن ماذا تم إزاء هذه “القضية الخطيرة” على المستوى العملي؟! وهل يعقل أن لا تكلف الدولة خاطرها فتجلس مرة مع القيادة الفلسطينية لمناقشة هذا الأمر وحسمه، على المستويين اللبناني والفلسطيني؟
لقد حددت المقاومة، بمختلف فصائلها، كما بقيادتها الشرعية (منظمة التحرير) موقفاً علنياً بالرفض المطلق للتوطين، وهذا من شأنه أن يسهل مهمة الدولة في معالجة الأمر.
ولكن ألا تستحق العلاقات اللبنانية – الفلسطينية وقفة جديدة لإعادة تنظيمها وتقنينها وتركيزها على أسس ثابتة تأخذ بعين الاعتبار الدروس المستفادة من الحرب التي دفع اللبنانيون والفلسطينيون ثمنها الباهظ من حياتهم وأرواحهم ومصادر رزقهم وقداسة قضيتهم؟!
ألم يحن الحين بعد لأن تأخذ الدولة دورها الطبيعي فتتعاطى هي وهي بالذات وليس أية جهة أخرى غيرها، مع الفلسطينيين فتحدد معهم ما لهم وما عليهم، وتصل معهم إلى كلمة سواء تحمي قضيتهم وثورتهم بغير أن تنتقص من استقلال لبنان ووحدته الوطنية وحقه في الحياة؟!
3 – … وهذا الحديث المتكرر والممج عن الصراعات العربية والدولية التي تتخذ من لبنان مسرحاً، اليس له من نهاية؟!
متى لم يكن لبنان، بالذات، مسرحاً لهذه الصراعات؟
وهل في الكون كله بلد لا يتأثر، سلباً وإيجاباً بالصراعات العربية والدولية؟!
هل في الكون جزيرة تعيش داخل إناء زجاجي مليء بالأوكسجين، يعزلها عن العالم ويؤمن لها في الوقت نفسه عدم الاختناق؟!
ألم يفز بشارة الخوري برئاسة الجمهورية ضد اميل اده “بفضل” الصراعات العربية والدولية؟
وكميل شمعون… هلى وصل إلى الرئاسة بدلاً من حميد فرنجية فقط لأن لون عينيه أكثر زرقه؟!
وفؤاد شهاب؟!
وشارل حلو، وسليمان فرنجية، وصولاً إلى الرئيس الحالي… هل وصلوا إلى سدة الرئاسة في “غيبة” من الدول سواء منها العربية والأجنبية؟!
أكثر من هذا: ألم يثبت أن دولاً عربية ساهمت في تمويل حملات انتخابية رئاسية ونيابية في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا واليونان وغيرها؟
ألم تظهر أصابع بعض الدول العربية وراء الانقلاب العسكري في الباكستان؟!
ثم… هل انقطعت علاقات الكتائب وكميل شمعون ببعض الدول العربية؟! هل توقفت عنهم الأموال “العربية” والأسلحة “العربية” والامدادات “العربية”… أم إن ما هو حلال و”حق” لهم حرام على غيرهم وباطل وخيانة؟!
لقد رأى المواطن العادي أقطاب “الجبهة اللبنانية” يطوفون ببعض العواصم العربية فينزلون فيها على الرحب والسعة، ويكرمهم شيوخها وأمراؤها وملوكها ويزيدون لهم في العطايا والهبات والجعالات والدعم السياسي.
واستقر في ذهن هذا المواطن أن اليمين العربي، يعتبر الكتائب حزبه وقوته الضاربة في لبنان.
بل إن هذا المواطن سمع حزب الكتائب وهو يعرض يوماً على بعض شيوخ الخليج أن يساعده على قمع قبيلة سولت لها نفسها أن تتمرد على طاعتهم.
فلماذا يقبل هذا كله، ثم تنطلق الألسنة بليغة في التهجم على العرب وشتمهم ومطالبتهم برفع اليد عن لبنان؟!
هل العيب فقط في كونهم لم يقبلوا منطق “الجبهة اللبنانية” ولم يلتزموا بنهجها التقسيمي، ورفضوا أن يجيزوا لبعض قيادتها حق الاتصال والتعامل مع العدو الإسرائيلي؟!
وبالنسبة للدول الأجنبية، يتساءل المواطن العادي: لماذا يحلل “للغرب” كل شيء، حتى المحظورات، ويمنع على “الشرق” أي شيء وتساق ضده باستمرار تلك التهمة السخيفة بدعم “أعمال التخريب والهدم” التي لا يرتكبها أحد غير “اليسار الدولي”؟!
إن السفير الأميركي، وحتى القائم بالأعمال، بل والقائم بأعمال القائم بالأعمال، شبه مقيم في مقار الدولة الرسمية، يتنقل بين الرؤساء والوزراء ويناقش أدق التفاصيل الداخلية الممنوعة معرفتها على بعض كبار المسؤولين…
فهل الولايات المتحدة خارج لعبة الصراعات، وهل هي في لبنان ملاك رحيم بينما لم يعرفها العالم مطلقاً في هذه الصورة، بل عرفها عبر تسمية شهيرة تحملها كالوشم على جبينها: عدوة الشعوب!
والمواطن العادي ليس نعامة، إنه يعرف تماماً منطق عصره: فالعالم، اليوم، صغير، وأقطاره ودوله – الصغرى كما الكبرى – تتبادل التاثر والتأثير، لكن ما يحدد الانعكاسات هو تماسك البلد المعني وصلابة دولته وشعبه، وإرادة التحرر فيه، فما هم أن تزمجر الرياح من حول بيتك إذا كان البيت سليم البناء وإذا كانت روح الوحدة عميقة الجذور وراسخة في صدور أفراد الأسرة؟!
إن المشكلة داخلية، أساساً والحل داخلي أساساًز
حتى مع الفلسطيني، والسوري وسائر العرب، بل وكل العالم، يظل الداخل مصدر الحل الأول والأخير.
وتظل الدولة، والدولة بداية وانتهاء، هي المعنية بصياغة هذا الحل وتقديمه إلى الآخرين.
أما كيف يقدم فتلك هي المسألة.
على أن الأكيد أنه ليس ثمة أسلوب وحيد لجعل الآخرين يقبلونه ويسلمون به.
والأكيد أيضاً أن قدرة الدولة على إقناع الآخرين بحلها أو فرضه عليهم تنطلق من مبدأ اعتبار نفسها الجهة الوحيدة المعنية، والجهة الوحيدة القومية عليهم جميعاً.
القوية بشرعيتها، بشعبها، بالدعم العربي، والدولي لها، وبحقها غير المنازع في اتخاذ القرار باسم الوطن ولمصلحته.
إلا إذا هي تنازلت عن هذا الحق.
والمواطن العادي يتساءل، أكثر ما يتساءل: هل هذا الضعف في موقف دولته ناجم عن “قصور ذاتي” أم عن قرار بالتنازل لمصلحة طرف محدد ومعين ومعروف؟!
والأسئلة، بعد، كثيرة، ولم يعد يجوز أن يتأخر طرحها أو تستمر الغمغمة فيها وترك تجار الحروب والمستفيدين منها يلتهمون المزيد من أرض لبنان ومن أبنائه، ومن أبناء الأقطار الشقيقة، المتواجدين فيه أيضاً.
ورحلة الأسئلة طويلة، بعد… وسنكملها!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان