أحتاج وصول الكتائب إلى سدة الحكم في لبنان إلى هزيمة عربية شاملة في مواجهة اجتياح إسرائيلي معزز بدعم أميركي غير محدود.
وفي حقيقة الأمر فإن هذا الوصول كان اجتياحاً ثانياً للبنان، ولكن من الداخل. وعبر التحالف العضوي، ومن موقع الملتحق، مع العدو الإسرائيلي.
وكما إن آثار الاجتياح الأول ما زالت قائمة كجرح نازف في الجسد اللبناني توجع وتهدد بمضاعفات خطيرة تمس مصير البلاد ومستقبل شعبها، فإن آثار الاجتياح الثاني – الكتائبي – هي التي تشل القوى السياسية اليوم، فتفق أمام “معركة” رئاسة الجمهورية عاجزة وحائرة لا تعرف كيف تتصرف ومن تنتخب ليكون الوعد بالخلاص.
فوصول الكتائب إلى رئاسة الجمهورية كان “انقلاباً” بالمعنى الحرفي،
صحيح إن العسكر كان إسرائيلياً، لكن الكتائبي هو الذي اعتلى الدبابة الإسرائيلية وقفز منها إلى القصر الجمهوري في بعبدا.
وليس مهماً الآن أن نستذكر وقائع تلك الأيام السوداء: من فتح النافذة لهذا المتسلل، ومن ركع فحمله فوق ظهره ليقفز، ومن بدل موقفه بين ليلة وضحاها فصار يرى في “سفاح البيت الأسود” بطلاً وطنياً، وفي صنيعة الغزو الإسرائيلي رمزاً للسيادة والتحرر والاستقلال،
على إنه يظل مهماً أن نستذكر إن الرئيس الكتائبي البديل (أمين الجميل) قد اندفع يكمل رسالة أخيه بشير بما سمي “سياسة الهيمنة”، أي سياسة احتكار السلطة ومصادرة القرار وتعطيل العمل السياسي في لبنان وحصر الصلاحيات جميعاً في يده.
فمن منا لا يذكر “تعيينات اللون الواحد” التي أصدرها أمين الجميل في بداية عهده، والتي كانت توكيداً لنجاح الانقلاب وسيطرته الشاملة على مختلف مواقع السلطة برموز العهد الجديد الذي أنجبه التحالف الإسرائيلي – الكتائبي، وبينهم على سبيل المثال لا الحصر:
إبراهيم طنوس في قيادة الجيش، باعتباره رفيق سلاح أمين الجميل في جبهات صنين والمتن، وأساساً في تل الزعتر،
زاهي البستاني ، في قيادة الأمن العام، باعتباره معتمد بشير الجميل وأمين سره “ومنظم” معركة وصوله إلى الرئاسة وتمكين النواب من أداء واجبهم في … حماية الديمقراطية وصيانة الدستور!
دياب يونس، الذي انتدبه الشيخ بيار الجميل للبننة البقاعيين واستعادة “اهراء روما” إلى أصحابه الفينيقيين ، الخ…
ولقد تصرف أمين الجميل كبطل انقلاب ناجح، لا فضل لأحد عليه ولاهو يحتاج أحداً، طالما إنه، بشخصه، يجسد القوى جميعاً وعناصر القوة بلا استثناء،
فهو “الإجماع الوطني” بذاته،
وهو “الطائفة الممتازة”، حزبها وفارسها وسيفها الماضي،
وهو خلاصة جمع الدستورية مع الشهابية مع الكتائبية معززة بتراث الحلف الثلاثي،
ثم إنه الفلسطيني، السوري، الكويتي، السعودي وبقية العرب العاربة!
وهو الغرب كله، الفاتيكان، فرنسا، الولايات المتحدة وحتى بريطانيا العظمى، وفوقها ألمانسا شتراوس،
وهو المنفتح على “الشرق” من رومانيا تشاوشيسكو إلى بلغاريا وصولاً إلى الاتحاد السوفياتي،
وهو، بهذا المعنى، المحصن والمصفح بحيث يستطيع أن يباشر مفاوضات مع الإسرائيلي، وأن يجيز عقد “وثيقة شارون”،
ثم إنه يستطيع أن يوظف الأميركي لحسابه فيمهد له ويساعده على عقد الصفقة الكبرى مع الإسرئايلي ممثلة باتفاق 17 أيار، بعدما أنجز وبنجاح عقد الصفقة الأولى مع الفلسطيني ممثلة بما يسمى اتفاق فيليب حبيب الذي بموجبه خرجت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من التاريخ!
على هذا كله ففي وسع أمين الجميل، ومن حقه، أن يستغني بنفسه عن الآخرين،
ولماذا، أصلاً، يريد الآخرين وبماذا يمكن أن يساعدوه وهو الذي على كل شيء قدير؟!
من هنا كان اختياره لحكومته الأولى، حكومة الرئيس،
ومن هنا كان واستمر لفترة طويلة يمارس مهام “القائد الشاب”، “بطل مغامرة الإنقاذ” الرئيس – الحاكم – الآمر الناهي – الحكم والحكومة، وزير الخارجية بل وزير الوزارات جميعاً.
بل لعله مارس طيلة السنتين الأوليين من عهده مهام المديرين العامين جميعاً،
لماذا نعدد هذه الممارسات؟!
ليس القصد تقييم عهد أمين الجميل أو سياسته أو التشهير به وبما صدر عنه،
بل القصد محاولة تحديد أسباب البطالة السياسية التي عاشها لبنان، وما زال يعيشها حتى الآن، والتي جعلت اللبنانيين في لحظة الخيار الجدي عاجزين عن ممارسة حقهم بل واجبهم الطبيعي في رسم ملامح مستقبلهم المنشود عبر الرئيس العتيد.
فالانقلاب يلغي السياسة ويحصرها في شخص “البطل”،
والكتائب التي كانت “حزب الحاكم” وتحولت إلى “الحزب الحاكم” سرعان ما أخلت مكانها وأخذت تضمرلمصلحة قائد السلام والحرب، السياسة والكياسة، الصحافة والثقافة، الذي صار رئيس الرئاسات جميعاً، والممارس الوحيد للسياسة أو السياسي الأوحد في لبنان!
… خصوصاً وإن أمين الجميل، لأنه ابن أبيه، استطاع أيضاً أن يتعامل مع “القوات اللبنانية” على إنها بعض إرثه العائلي، فإذا كان الحزب تركة الشيخ بيار، فإن التنظيم العسكري هو تركة أخيه الشيخ بشير.
كأن بشير قد أنجز، قبل غيابه، مصادرة الحياة السياسية في المناطق الشرقية، لاغياً أي وجود منظم أو حزبيأو أي تجمع يحتمل أن يقاسمه أو ينازعه السلطة بأي شكل وبأية نسبة كانت.
أما “الغربية” التي كانت تضج بالحياة السياسية أحزاباً ومنظمات وهيئات وشخصيات ومؤسسات ديمقراطية فقد بدأ أمين الجميل يتجاهل قواها الحية، ومحاولة إحياء العظام وهي رميم.
ولما قاومت الموت صمتاً وطاعة أعلن عليها الحرب، فالمعارض من الخوارج، والمعترض متآمر وصاحب الرأي، عموماً، مخرب، والقائل بحق الاختلاف، طائفي!
ولأنه “قائد ميليشيا”، وميليشيا طائفية وفئوية فقد فرض على الجميع معركة ميدانها الطائفية بالضرورة، وسلاحها المدفع والبندقية والميليشيا الطائفية والفئوية حكماًز
ولأنه رئيس للدولة ورمز للبلاد فقد دمغ الحكم ومؤسساته بالدمغة، الفئوية: صارت دولة الحزب الواحد، الذي هو القائد الفرد الواحد!
لم يعد ثمة مجال لإثبات وجودك إلا بالطائفية والتنظيم الطائفي المسلح.
ومع تحول الأحزاب والقوى جميعاً إلى ميليشيات، وإلى تنظيمات طائفية وفئوية، كانت الدولة تضمحل وكأن العمل السياسي، بتقاليده العريقة، يندثر، وكانت الديمقراطية بمختلف أشكال التعبير تخلي الساحة لغابة من الغيلان الطائفية المقتتلة على أشلاء الوطن والمواطن.
حتى الأحزاب العلمانية والديمقراطية القومية والتقدمية، ضربها المرض الخبيث فإذا هي تحمل أعراض الوباء وتنكفئ إلى ما وراء حدود الغيتو الكتائبي، تحاول أن تحتمي في المناطق الأخرى التي سرعان ما أخذت تكتسب ملامح الكانتونات الطائفية والمذهبيةز
كان الانقلاب يحقق نجاحه الأعظم إذ إن الكتائب أصابت الميع بعدواها فإذا أعتى خصومها يتحولون تدريجياً إلى كتائب للطوائف الأخرى.
وماذا يهم بعد ذلك اختلاف الأسماء والشعارات والهتافات. فالكل كتائب في الداخل، تظاهرهم وتساندهم الكتائب العربية في الخارج، حيث لا سياسة ولا سياسيون ولا معارضة أو معترضون على حكم أولي الأمر ممن استخلفهم الله على خلقه في أربع رياح الكون…
وهكذا، في غياب العمل السياسي وفي ظل البطالة السياسية، دارت رحى أهم المعارك السياسية وأخطرها في تاريخ لبنان.
وها نحن اليوم نحصد النتائج فحسب،
إذ نفتقد الحد الأدنى من السياسة في معركة الرئاسة فلا نجد غير الدعاوى الطائفية، وغير المداخلات الأجنبية التي تتخذ من تلك الدعاوى منطلقاً لها لتمارس علينا ابتزازاً مفضوحاً نسلم به (نقريباً) لأننا نقر ضمناً بقصورنا وبعجزنا عن ممارسة حقنا في تقرير المصير.
وفي الغد نكمل هذه الرحلة داخل الانقلاب الكتائبي الذي غيب لبنان وألغى دوره وعطل وما زال يعطل الحياة السياسية فيه وتركنا نهيم في الفراغ ونهذي بأسماء مرشحين لا تستحق أكثريهم شرف أن تذكر أسماؤهم في مثل هذا المجال.
فإلى الغد.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان