نشرت في جريدة “السفير” بتاريخ 10 شباط 1999
لو أنني أقدر على ممارسة حق الانتخاب لأعطيت صوتي للرجل الذي استبقى لي، كعربي، من القيمة والأهلية ما يحفظ لي حق الرأي في بعض أمري، بينما ضيّع »الآخرون« القيمة والرأي والأمر كله، ووقفوا على باب »السيد« الاجنبي متسوّلين أو جندوا أنفسهم لحماية العدو الاسرائيلي مرتزقة أو متطوعين بألقاب ذات سمو!
على أنني أعطي صوتي لحافظ الأسد بلا وسيط، فلست أرى من يستحق ان يكون بينه وبيني.
لا أحتاج دليلا إليه، ولا هو يرضى أن تكون علاقتي معه عبر الصورة، فالموقف هو أرض اللقاء والمبادئ هي الرباط المقدس وتحرير الأرض والانسان هو القضية.
إنني، كمواطن عربي، أعرفه تمام المعرفة، وهو يعرفني ولو بلا اسم، وإلا فكيف قال كلمتي وعبّر عن تطلعاتي وصمد لمحاولات إلغائي أو تطويعي؟!
والعلاقة بيننا مفتوحة؛ يحاورني وأحاوره عبر الخنادق والألغام والمخاطر، ثم يتقدمني فأتبعه غير هيّاب ولا وجل لأن القيادة ثقة، ولأن القيادة شجاعة في اقتحام الصعب، ولأن القيادة إيمان راسخ بالحق، ولأن القيادة كفاءة في المواجهة تجل عن أن تكون مؤامرة أو مغامرة أو مقامرة تنتهي بصاحبها إلى الانتحار.. أو الى نحر شعبه جماعيا.
لا أعطي صوتي بعاطفتي، بل بعقلي، ولا أعطيه بالمجاملة أو بالخوف أو بالنفاق، بل بالوعي الكامل لمخاطر هذا القرار،
ذلك أن »نعم« لحافظ الأسد تعني »لا« »لإسرائيل«، »لا« للإرهاب الأميركي، »لا« لاتفاقات الاذعان المنفردة، لا للعقوبات الجماعية المفروضة على الأمة العربية جميعا مع تركيز حصار التجويع على العراق، وحصار الاذلال على ليبيا، وحصار الموت على السودان، وحصار الحرب الأهلية على الجزائر، وحصار القلق على المصير على أقطار الجزيرة العربية والخليج.
أقول »نعم« للرجل الذي قال »لا« لمن أراد الهيمنة على إرادة الأمة ومواردها،
أعطي صوتي للذي قاتل في 6 تشرين 1973 من أجل التحرير، ولمن واجه في لبنان قوات الحلف الأطلسي والأسطول الأميركي السادس إضافة إلى الاجتياح الاسرائيلي.
أعطي صوتي لمن قال للموفد الأميركي الذي افترض أنه يضغط عليه بشرح تفصيلي لطول المدفع في المدمرة »نيوجرسي« وضخامة »السبطانة« والهول الذي تنشره قذائفها الاستثنائية في وزنها وقوة انفجارها:
» في نهاية المطاف فإن القذيفة، حتى لو كان وزنها طنا، ستقع على الأرض. وهي قد تقتل رجلا أو طفلا أو امرأة أو شيخا أو عائلة كاملة، ثم إنها قد تحدث في الأرض حفرة سرعان ما يطمرها الفلاح أو الزمن، أما الأرض نفسها فتبقى ثابتة حيث هي ولأهلها ولا يكون أمام البوارج غير الرحيل. هل تستطيع »نيوجرسي« أن تحمل الأرض وتنقلها من مكانها أو أن تغيّر هوية شعبها؟!«.
* * *
لا يحتاج حافظ الأسد إلى صوت إضافي،
ولكنني أحتاج لأن أذهب مرة، بإرادتي الحرة، الى صندوقة اقتراع، فيها ثقب من فوق، ولها من تحت قعر، أضع فيها رأيي فلا يسقط سهوا أو يضيع هباء، ولا يغني عني في قوله من يدعي لنفسه حق الوصاية عليّ.
صوتي لحافظ الأسد بموقفه وليس للصورة ولا لمن يحملها أو يرفعها فوق الرؤوس ليظهر هو فيها، وليس ليؤكد على الالتزام بالمعركة التي يقودها حافظ الأسد بكفاءة استثنائية شهد بها الأعداء والخصوم قبل المناصرين والأصدقاء.
صوتي لقلعة الصمود العربي.
صوتي لدمشق الياسمين التي أعادتها قيادة حافظ الأسد قلب العروبة النابض.
صوتي للذي لم يخضعه الارهاب الدولي ولا أخافه فأقعده التهديد بالحصار والعقوبات ومنع المساعدات والدعم المفتوح لإسرائيل كي يضمن لها التفوق المطلق على مجموع العرب.
»نعم« للرجل الذي قال وما زال يقول »لا«.
فلم تكن لكلمة »لا« قداسة مثل التي لها اليوم، في ظل الهيمنة بالعولمة الاميركية أو بالصهينة وهما وجهان لعملة واحدة.
* * *
في المكتب البسيط الرياش والذي بات من معالم الحياة السياسية العربية المعاصرة لكثرة من تناوب على مقاعده العادية من صانعي القرار ومحركي الأحداث في العالم قالت الصبية المتحرقة شوقا إلى التغيير حماية لحقها في غدها: أريد أن أسألك عنها…
واقترب الرئيس حافظ الأسد وقد طغى حنان الأب فأكسى ملامحه رقة ودعة يحاول أن يتبين معالم »التميمة« التي تعلقها الصبية في عنقها منذ طفولتها… وارتعش صوتها وهي توضح »التميمة«: إنها خريطة فلسطين… وأنا خائفة عليها من الضياع، فإن ضاعت ضعنا جميعا..
وقال حافظ الأسد بلهجة الثابت على إيمانه: لا تخافي يا بنيّتي، فلسطين باقية ولن تضيع، وإذا ما قصّرنا نحن، أقصد جيلنا، فالأمل فيكم، وأقدّر أن جيلكم لن يقصّر..
ورنت الصبية الممتلئة بالقلق الى لوحة حطين في صدر المكتب المستطيل ذي المقاعد البيضاء والسجادة القاتمة الخضرة، ثم ودعت وخرجت الى شوارع دمشق العابقة بهواء فلسطين وأنفاس أهلها..
* * *
»نعم« للرجل الذي قال وما زال يقول »لا«.
وهذه »اللا« المقدسة هي التي ما تزال توفر المظلة الضرورية للمقاومة الباسلة ولمجاهديها الأبطال الذين يحمون بدمائهم من لبنان وفيه شرف الأمة، والذين يقاتلون باسمها ونيابة عنها من أجل حفظ حقنا في غدنا.
طلال سلمان