موت الملك في كيان تمّ استيلاده بقرار دولي، كالأردن، حدث سياسي خطير وليس مجرد موعد مع القدر، ولذلك فليس للحزن مكان، بل هي الأسئلة التي تتقدم فوراً فتفرض نفسها مستدرجة الأجوبة: مَن بعده؟! وماذا بعده؟! وهل للخلف قوة السلف؟ وهل الرصيد المتبقي يكفي لإدامة العرش، وهل سيواصل ولي العهد النهج أم يختلف وبأية حدود، وبأية شروط؟!
والجنازة الدولية للملك حسين في عمان، أمس، كانت في جانب منها ساحة استكشاف لسبر آثار »الغياب« وما قد يترتب عليه، وللتحقق من قدرات النظام على الصمود من دون مؤسسه ورأسه المدبّر والمفكّر ومهندس الشبكة الحامية ممثلة بالعلاقات الدولية التي بُنيت بدأب على امتداد نصف قرن إلا قليلاً؟!
ولعل المشاركة العربية العالية المستوى والشاملة في الجنازة الملكية، وخصوصا من طرف المعترضين على نهج الملك الراحل، ورافضي اتفاقاته المنفردة مع العدو الإسرائيلي، تأتي في سياق الممانعة ورفض الانسحاب والتسليم بانسلاخ الأردن عن أمته، والتحاقه بالعدو، وتوكيد الحرص على شعبه وإبقاء الباب مفتوحا أمام الملك الجديد، إذا ما قرر مراجعة ما كان أو التراجع عنه (مع الوعي بأن هذا القرار قد يصل في صعوبته إلى حد الاستحالة).
إن وجود الرئيس السوري حافظ الأسد وولي العهد السعودي الأمير عبد الله والرئيس الجزائري اليمين زروال والرئيس اليمني علي عبد الله صالح، والرئيس السوداني عمر البشير، والوفود العراقية والإماراتية والكويتية إلخ، كان يتعدى منطوق واجب التعزية واللياقات الاجتماعية ليتبدى في صورة قرار واع بتجاوز الاتفاقات المنفردة والهرولة إلى الصلح بالشروط الإسرائيلية، وتوكيد الالتزام العربي بالأردن شعبا وكيانا ومصيرا، وعدم التخلي عنه للإسرائيلي.
ولولا هذه المشاركة العربية ذات الدلالة السياسية الواضحة لبدت جنازة الملك حسين وكأنها إعادة حرفية تقريبا لجنازة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين.
فالوفود الأجنبية هي الوفود نفسها تقريبا، لم يتبدل منها إلا مَن غيّبه الموت.
وإذا كانت تلك الوفود قد جهرت، في تل أبيب، يومذاك، أي قبل أربعين شهرا تقريبا، بأن إسرائيل هي المركز لمنطقة الشرق الأوسط، التي نزعت عنها هويتها العربية، وإسرائيل هي الغرب كله، فلقد كانت تقصد أن تصرح في عمان بما ألمحت به في تل أبيب من أن الأردن هو الشريك الحيوي لإسرائيل، وهو بهذا المعنى »من الغرب« حتى لو كان مليكه الهاشمي بالكوفية والعقال، وليس مجرد محمية غربية في الأرض العربية.
فهذا الكيان الذي أنشأته »التمهيدات« الضرورية لقيام إسرائيل، وقد باشرها أميرها الذي صار من بعد، وبالتواطؤ معها، ملكاً، شكّل على امتداد نصف القرن الماضي إحدى ضمانات السلامة للدولة الصهيونية، والحليف الموضوعي الدائم لها، وتحت المظلة الأميركية بالطبع.
إن الكثير مما يُنسب إلى الملك حسين من قدرات استثنائية إنما يعود في أصله إلى الاحتياج الإسرائيلي خاصة والغربي عموما للكيان الأردني، لامتصاص »الفائض الفلسطيني« بداية، ثم لتأمين إسرائيل ضد اكتمال الطوق العربي من حولها، مما يجعلها جزيرة صغيرة معزولة تعيش في ظل الخوف ممن انتزعت منهم أرضهم وطردتهم وممن خلخلت أوضاعهم وفرضت عليهم الحرب المفتوحة التي لم يكونوا مستعدين لها أو قادرين عليها، وهذا يشمل الدول العربية جميعا، القريبة من فلسطين أو البعيدة عنها.
وبالتأكيد فإن الملك حسين كان يتمتع بكفاءة عالية، وأنه اكتسب عبر التجربة خبرات واسعة، وأنه بارع في لعبة التوازن بالعصا فوق حبل مشدود.
لكن الكفاءة الشخصية، على أهميتها، لا تبني وحدها أوطانا، ولا تحمي كيانات مصطنعة تعيش على »الهبات« والمساعدات الأجنبية، ولا هي تستطيع وحدها مواجهة العواصف الهائلة للسياسات الدولية المصطرعة التي عاشت العائلة الهاشمية في قلبها، منذ بدايات هذا القرن، فأخرجتها من الحجاز، ثم من دمشق، وبعدها من بغداد، لتبقي لها الأردن كجائزة ترضية، ولأغراض تتجاوز استرضاء الأمير المغضب أو الخائبة آماله في الغرب.
إن المشاركة الغربية الشاملة في جنازة الملك حسين »أمر عمليات« أميركي، تماما كما كانت المشاركة في جنازة رابين.
ولعل واشنطن (ومعها تل أبيب) قد فوجئت بقرار الرئيس السوري حافظ الأسد وسائر المسؤولين العرب الذهاب الى عمان، التي تبقى مدينة عربية، والمشاركة في جنازة ملك الأردن، الذي يبقى بلدا عربيا ويبقى شعبه عربيا، تربطه وشائج القربى مع سائر العرب، لا سيما السوريين، وفي هذه المشاركة إعلان صريح بالوقوف الى جانب الأردنيين في السراء والضراء، وطمأنتهم بأنهم ليسوا وحدهم، ولن يكونوا وحدهم.
إن هذا القرار اختراق لشبكة الحماية الأميركية الإسرائيلية المفروضة على الأردن.
وهي رسالة الى الأردنيين من أهلهم الأقربين: أنتم منا ونحن منكم، في الحال وفي الاستقبال.
ولعل هذه المشاركة قد أسهمت في إعادة الاعتبار الى الكوفية والعقال على رؤوس الأردنيين، وعزلت »الوفود« الإسرائيلية العديدة وفضحت مغايرتها للطبيعة، حتى لو فرضتها ضرورات حماية الكيان أو العرش الذي لم يعش يوما بغير حماية أجنبية…