يبدأ ملك الأردن الجديد عبد الله (الثاني) عهده خلفا لوالده الحسين محكوما، بداية، باسمه، ثم بتراث المسيرة الطويلة التي أسّس لها مَن أخذ عنه اسمه، ثم أرسى دعائمها وثبتها في الأرض، ووسط صراعات لما تنته، أبوه الذي استبق موته بتعديل أحلّ فيه بكره مكان شقيقه الذي قام بدور »الظل« لثلاثة عقود ونيف ثم عُزل في اللحظة الأخيرة وبأسلوب لا يتسق تماما مع التقاليد الملكية.
والبداية لن تكون رمزية، بل هي ستحدد المسيرة وجهتها واستهدافاتها والضمانات الضرورية لعدم انتكاسها أو قصورها عن بلوغ غاياتها.
بين »الانقلاب« الهادئ قبل أسبوع، و»الجنازة« الدولية المدوية اليوم، الاثنين، تتبلور ملامح الصورة التي يُراد للعهد الجديد في الأردن أن يكون عليها،
وحتى هذه اللحظة فإن الحاضر الأكبر في الأردن هو الملك الميت، ولسوف يبقى ظله ولأمد طويل يحكم مسار الأحداث ويغطي على وريثه الذي يبدو أنه سيباشر سلطته ومن حوله »مجلس وصاية« دولي تتولى رئاسته الولايات المتحدة الأميركية في حين تقوم إسرائيل بدور »المقرِّر« فيه،
لقد خرج الأردنيون يودعون بالبكاء والقلق على المصير الملك الذي وعوا على الدنيا وهو يقودهم، بالدهاء مرة وبالقبضة الحديدية مرارا، بالنسب الشريف مرة وبالدينار مرارا، بتبديل المواقف لتثبيت الموقع كلما قضت »الحكمة« تبديلها، وبالثبات على الولاء للذين اصطنعوا مملكة لعرش تائه في الصحراء العربية والذين تولوا وما زالوا يتولون تأمينها في وجه العواصف العاتية أياً كان مصدرها: الثورة العربية في الخارج، أو الثورة الفلسطينية في الداخل، الأحقاد الموروثة على الأسرة التي أنهت حكم الأسرة الهاشمية في شبه الجزيرة العربية، أو المخاوف المتنامية دائما من كل تغيير راديكالي يحدث في الجوار العربي، لا سيما في سوريا والعراق.
ومن حق الأردنيين أن يفترضوا أن الملك حسين وحده، وفي ظروفه، كان يمكن أن يقودهم طوال نصف قرن تقريبا، بغير أن تغرق سفينته الصغيرة وسط الأنواء، ولذا فإن مخاوفهم لغيابه أعظم من أن تهدئها التطمينات العامة والمبهمة، خصوصا وأنها تؤكد في كل حرف منها أنها إنما كانت مرتبطة بشخص الحسين ومتصلة به بالذات.
من هنا فإن قلقهم الصاخب، خصوصا وهو يتخذ طابع النحيب والتفجع العلني والتعبير المباشر عن الإحساس باليتم (؟!)، يبدو مشروعا ومفهوما: إنه الخوف من المستقبل أكثر منه الحزن على الفقيد الذي تركهم لمصيرهم وارتحل عنهم.
أما الفلسطينيون فهم بالخوف أولى، لأن ما يطمئن »الأردنيين« إنما يتم، في العادة، على حسابهم… فالأردنة تشطبهم تماما، وتجعلهم أشبه ما يكونون بأشقائهم الفلسطينيين تحت الاحتلال (1948)، أي »أقلية قومية« لها بعض الحقوق المدنية، ويمكنها أن تلعب دورا »ضمنيا« في الاقتصاد، ولكن من دون أن يكون لها دور في السلطة ومن ثم في »القرار«.
ثم ان الفلسطينيين الذين خابت آمالهم مرارا في قيادة ثورتهم، والذين فقدوا الأمل بحق العودة، والذين فُجعوا بالتطابق الكامل في المسلك السياسي بين قيادتهم والنظام الأردني بما يتصل بالعلاقة مع إسرائيل، لا يملكون اليوم أي بديل من واقعهم الراهن.
بل إن فلسطينيي الأردن يكادون يغبطون أنفسهم على ما هم فيه من نعمة: فأحوالهم أفضل بما لا يقاس من أحوال إخوانهم التابعين »للسلطة« التي لا سلطة لها إلا عليهم، تستوي في ذلك حقوقهم السياسية وحرية النشاط الاقتصادي والوضع الاجتماعي عموما… وهم، على أي حال، قد خبروا »الأمن الأردني« فباتوا يعرفون ضوابطه وموانعه فيلتزمون بها وينامون في منازلهم آمنين. أما في ظل السلطة فكل مواطن متهم بالارهاب حتى يثبت العكس، ونادرا ما يثبت.
* * *
هو عبد الله الثاني، إذن.
والإسم بذاته يستفز الذاكرة الفلسطينية. لكن ذلك من الماضي، بدليل أن الملك الجديد، عبد الله، هو صهر الفلسطينيين الذين اغتالوا الجد في المسجد الأقصى.. مع ذلك يظل عبد الله الثاني سليل ذلك الأمير المشبع بالأحقاد والمرارة والخيبة، والذي تمّ تجاوزه إلى مَن هو أصغر منه من إخوته، فأعطي فيصل »عرش« سوريا بداية، ثم عوّض عنه بعرش العراق، بينما ألقي هو في ذلك الشريط الصحراوي من شرق الأردن »أميراً« بلا مملكة حتى أقام اليهود دولتهم فوق بعض فلسطين وسلّموه ما لم يكونوا آنذاك قادرين على أخذه منها، فصارت له »مملكته« الهاشمية.
على أن ما كان سراً يقتل إذا ما افتضح بات اليوم سياسة رسمية معلنة ومعتمدة للمملكة الأردنية بعدما تمّ تدجين العرب عموما وتطويع الفلسطينيين خصوصا.. وهي سياسة تحظى بتأييد عالمي كثيف سيتأكد اليوم في جنازة الحسين.
تكفي الإشارة إلى أن إسرائيل كلها ستشارك في الجنازة: الحكم والمعارضة، »اليمين« بأنماطه المتدرجة تطرفا حتى الأقصى، و»اليسار« الذي يغطي تطرفه الفعلي باعتدال لفظي،
إسرائيل هي ضمانة الامارة ثم المملكة. الأمير ثم الملك والعرش أساسا.
إسرائيل هي الشريك الكامل، ولعلها الشريك المفوض.
وإذا كان عبد الله الأول قد أسس لمثل هذه العلاقة فإن عبد الله الثاني سيكون محكوما بها بمعزل عن قدراته وهل هو بمثل كفاءة جده لأبيه أم أقل، وهل هو بمثل قسوة أبيه المعززة بالدهاء أم أقل.
المملكة أردنية والرعايا بكثرتهم فلسطينيون والعرش هاشمي والضمانة إسرائيلية والحماية لقيادة الغرب، ولذا فهي قد انتقلت من بريطانيا العشرينيات إلى الخمسينيات إلى الأميركيين بعد ذلك وحتى اليوم.
وبغض النظر عن المجاملات الرسمية فإن المواطن العربي العادي يحس نفسه غريبا في جنازة الملك حسين. إنها جنازة تقع خارجه، وهو يتعامل معها باحترام بفعل التقاليد العربية التي تفرض أن يستذكر الموتى، ولو ملوكا، بحسناتهم وحدها وأن تغفل سيئاتهم وأخطاؤهم، تدليلا على احترام قضاء الله وطمعا بمغفرته ورحمته، واطمئنانا الى أن كلا كتابه بيمينه ومسيرته محفورة في لوح محفوظ وعلى كل ذلك يكون الحساب.
لكن السياسة تستعجل الحساب، بل ان الحساب فيها مفتوح أبدا وعلى مدار الساعة، وبديهي أن أرصدة الملوك أخطر بما لا يقاس من حساب العامة.
ملحوظة من داخل السياق:
لقد رحل الملك حسين عن دنيانا بعدما استهلكه المرض الخبيث،
ولعل أسوأ ما قيل في نعيه أو في تأبينه أو في التفجع عليه إن الأردنيين بعده »أيتام«! أو أنهم تائهون أو مسحوقون تحت وطأة الشعور باليتم.
مثل هذا »النعي« مسيء إلى الشعب كما إلى الملك الأردني الذي عاش حياة حافلة بالكثير من المآثر وأكثر من الأخطاء والخطايا.
فالشعب يصنع القائد ولا يصنع القائد الشعب،
الشعب هو الباقي والمبدع، صانع الانتصارات بعرقه أو بدمه، والمجد الذي له الخلود.
… والمساعدة الفورية الأميركية، المادية (300 مليون دولار)، إضافة إلى الدعم السياسي المفتوح والذي تشارك فيه إسرائيل بحرارة بالغة، تدل على أن الملك الجديد هو في موقع »اليتيم« وليس الشعب بأي حال.