لا يحدث الفقر تلقائيا. هو يحدث بإرادة الطبقة العليا من أصحاب السلطة حسب برنامج تعده سلفا ويجري تنفيذه لاحقاً. يستطيع الغني أن يقول أنعم الله عليّ بالثروة. يخجل الفقير من نفسه ولا يستطيع القول أنعم الله عليّ بالفقر. لا يستطيع اتهام الله بمصائبه. لكنه يستطيع اتهام السلطة التي تمثّل الله وتحتكره، من مدنيين وعسكريين ورجال دين؛ يستطيع اتهامها بإحداث فقره. الفقر تفرضه الطبقة العليا على الآخرين، وهم الأكثرية، فيصيرون فقراء. في كل مجتمع عدد محدود من الخيرات. عندما تستأثر الطبقة العليا بكمية أكبر من نسبتها لعدد السكان، يكون طبيعياً أن تكون حصة البقية أقل من المعدل بكثير. كل ما يحسب في ثروة المجتمع هو حصيلة عمل العاملين في المجتمع من عمال وفلاحين وموظفين وغيرهم. يعطى هؤلاء أجورهم وهي الحد الأدنى الذي بالكاد يكفي للعيش. وكل فائض عن ذلك تقتطعه الطبقة العليا مستخدمة سلطتها وممارسة سياسة القمع كي تجمع الثروة على حساب الأكثرية ومن حساباتهم. عندما يثور الفقراء لأي سبب من الأسباب المادية والمعنوية تعاقبها الطبقة العليا بما تملكه من قوى أمنية وعسكرية وهيمنة دينية. يبذلون كثيرا من الجهد لتبرير الثروات إلهياً، وعندما لا يقتنع الناس ينزلون العقاب بهم.
أخطر ما تفعله الطبقات الدنيا بنظر علياء القوم هو أن تعي نفسها كطبقة أو طبقات وتنظم نفسها في نقابات وأحزاب وتطالب بحقوقها. بديهي القول أن معظم ما تملكه الطبقة العليا، وهي أقلية عددية، هو حق الطبقات الفقيرة. ملكية الطبقة العليا تحدث عن طريق السيطرة على قوى الأمن والايديولوجيا، وعلى القوى العسكرية والدينية. الأولى للقمع، والثانية لتبرير أعمال السلطة. تأتي التبريرات بحجج دينية إلهية طبعاً. يقول رجال الدين الله أعطى، ولا يجرؤون على القول أن فلاناً وفلاناً وفلاناً سرقوا ونهبوا ما لا يستحقون، أي ما لم يعملوا من أجله. لذلك حرص السلطة، أي الطبقة العليا، على التعيينات في المناصب الدينية، ولا يترك الأمر لاختيار شعبي. السلطة الدينية تهبط من فوق ولا تصعد من العامة. هبوطها من فوق يدعمها بسلطة إلهية تدعيها، وتزعم لنفسها ملكية ما لا تستحق. لا تملك من الله ما لا يملكه الغير. هي تبالغ في مضمون سلطتها الدينية كي تقوم بواجبها في خدمة سلطة المال والسياسة على وجه أكمل.
حدثت ثورة 17 تشرين الأول عام 2019. قام بها الناس ضد الفساد؛ “كلن يعني كلن” يعني فساد توزيع الثروة كما جاء في الأسطر أعلاه. مقابل “كلن يعني كلن” نحن يعني كلنا، ونحن الأكثرية الساحقة في مواجهة الطبقة العليا؛ لنا حقوق ويتوجب أن تكون لنا وفي حيازتنا.
كانت الطبقة العليا تستخدم الطائفية كي ينقسم الناس العوام ولا يشكلون طبقة، فإذا بهؤلاء يشكلون طبقة واعية. أنتجت وعياً عاماً فوق الوعي السائد. أنتجت هوية جامعة فوق الهويات الطائفية التي تقسّم وتشتت. شكل الناس بهويتهم الجامعة وبوعيهم الجديد المتدفق خطراً على الطبقة العليا. كان رد هذه الطبقة العليا أن اجتمع أطرافها السياسيون من أحزاب السلطة وأخذوا قرارات بمعاقبة الجماهير على فعلتها. في نظر أصحاب السلطة لا يحق أن يطالب العامة بحقوقهم، وأن يمعنوا في ذلك علنا، وأن يقوموا بتظاهرات من أجل ذلك. بعض العقوبات كانت أمنية، بحيث استخدمت وسائل الاعتقال والقنابل المسيلة للدموع، وأحيانا التعذيب وغيره. لكن العقوبة الكبرى هي سرقة مدخرات الطبقة الوسطى والطبقة الأدنى منها. أول ما فعلته الطبقة العليا هو تهريب أموالها للخارج ثم الاستيلاء على ايداعات العوام في المصارف. بالطبع كانت المصارف شبيهة في انقيادها بالطبقة الدينية. صادروا أموال الناس ومنعوها عليهم. فلم يبق لدى هؤلاء سوى التسوّل. تسوّل مالهم في المصارف، ومعانات الذل في الطوابير أمام المصارف لا لسحب أموالهم، فهذا ممنوع، بل لسحب ما تسمح به المصارف، بما فيها المصرف المركزي. سرقت المصارف أموال الناس بأوامر من الطبقة العليا، وهذا ما يُسمى التملّك بالمصادرة. طبعاً كان ذلك مخالفاً للقانون وللدستور.
في القانون والدستور الملكية الفردية حق مقدس. داست المصارف والطبقة العليا المقدسات. لا تعنيها المقدسات مقابل حفنة من الدولارات أو أكداس منها. لم يلاحظ أصحاب العمامات أن هذه السرقة أو السرقات تمثل خطرا على حياة الناس؛ تهددهم بالمجاعة. لم يلاحظوا أن في ذلك مخالفة لدينهم وتعاليمه التي منها التأكيد على حق الحياة وحق المال، الخ… انضوى رجال الدين، بالأحرى طبقتهم، في صف الطبقة العليا، متخلين عن الله. تسلحوا بحصانتهم الدينية، كما تسلّح أرباب السلطة بحصانتهم السياسية في وجه القضاء الذي يحقق في انفجار بيروت في 4 آب 2020. انفجار مرفأ بيروت وأبنية العاصمة هو جريمة العصر. لا في لبنان وحسب بل في العالم. جريمة سرقة ايداعات الناس هي أيضاً من جرائم العصر. جريمتان موصوفتان ومع ذلك تسلحت الطبقة العليا السياسية والدينية بالحصانة كي لا تُتهم وتُدان. الكل يعرف أنها مدانة والطبقة العليا تعرف أنها مدانة وتقرّ بذلك، لكنها تقول بالحصانة للخلاص من التهمة.
جريمتان، واحدة بالمصادرة والثانية بالمتفجرات؛ كلاهما سلاح دمار شامل. جريمتان هما بمثابة حرب إبادة شاملة ترتكبها السلطات في بلد، هو لبنان، أو يدعي أولياء الأمر الحصانة. ويتجاهلون أن الحصانة هي فقط لحماية حرية الرأي وليست لحماية مرتكبي جرائم موصوفة. ادعاء الحصانة جريمة ثالثة لأن فيها دوس على القانون والدستور وخروج عليهما.
في تصنيفات هذا العصر، هي جرائم بحق الإنسانية يعاقب عليها القانون الدولي، إن كان هذا موجودا أو معتبرا لدى من يحكم النظام العالمي. لا يخفف من وطأة ما حدث، خاصة في 14 آب، اعتبار الإهمال. الإهمال على أيدي من يحكم أسوأ من أي جريمة أخرى ترتكب. كل الذين كانوا وما يزالون في سدة الحكم أو القيادة في لبنان يهمهم أن تعتبر أفعالهم إهمالاً أو نتيجة عدم توقع لما سوف يحدث، أو بالنتيجة جرائم ارتكبت عن غير عمد. في ذلك أيضاً مخالفة القانون والدستور. لا اعتبار للإهمال عند من يتصدى للسلطة. الذي يحكم يتحمل مسؤولية كل ما يجري تحته ولو كان القرار أو عدم القرار لمن هو أدنى منه في سلم السلطة. ادعاء غير العمد هو وجه آخر للهبل وعدم الأهلية لتحمل أعباء السلطة. فهذا احتيال على القانون. هم سعوا الى السلطة وكانوا، وما يزالوا، يعرفون ماذا يفعلون ولأي غرض يرتكبون. حرب الإبادة ضد شعبهم هي حرب فعلية جندت لها كل قوى الدولة المادية والمعنوية، والأدهى من ذلك أن القيادات الحاكمة تصرّح عالياً وبأصابع مرفوعة أنها تحقق انتصارات. الواحد تلو الآخر. نعم هي تحقق الانتصارات، لكن على شعبها لا على ما تعلنه من امبريالية أميركية وعدو صهيوني.
الفقر للأسف، ضرورة لكل نظام رأسمالي، بالأحرى لكل نظام فيه تراتبية اجتماعية. التراكم الرأسمالي لا يكون إلا على حساب الفقر. يصير الناس فقراء لأن طبقة عليا تصادر نتاج عملهم، أو جزءاً منه، وما يفيض عن الحد الأدنى الضروري للمعيشة. يمقته كل ذي عقل. يحاول بعض أصحاب الدين جعله فضيلة. تستغل الرأسمالية الفرصة لجعله مناسبة للإحسان. لكن معظم الناس يمقتونه. وتنشأ مؤسسات لمحاربة الفقر بالإحسان الى ذويه. يكون الأمر مدعاة للفخر عندما يكون الثري محسنا. وما أكثر الاستخدامات السياسية عند أصحاب رأس المال. كما يحتاج النظام الرأسمالي الى بطانة للإبقاء على تدني الأجور، فإنه يحتاج الى فقراء كي يستحق لقب الشهامة والتفضّل على المجتمع. يدعي الرأسماليون أن استثماراتهم هي سبب ديمومة الاقتصاد. لا يخبرون الناس أن تراكمات الثروة لديهم هي السبب الأساسي للفقر. ليس الفقر خللا في النظام بل هو آلية أساسية لصنع الثروة. لولا الفقر لما كانت الثروات. مصادرة عمل العاملين باسم فائض الإنتاج والقيمة وجعل الاستثمار سببا للإنتاج لا عمل العاملين سببا للقيمة هو الوجه الشرعي لتراكم الثروات. لكن الاقتصاد الموازي القائم على التهريب والتهرّب الضريبي وتجارة المخدرات والاتجار بالبشر المهاجرين وتبييض العملة، وغير ذلك مما هو غير شرعي يشكّل جزءا مهما من الاقتصاد العالمي. أزمة لبنان المالية، التي نحن في غمارها، تجعل كل شيء في الاقتصاد غير شرعي. الاحتكار سيد الموقف. التضخّم وهو الوجه الآخر لخفض العملة الوطنية يشكّل بداية مجاعة لدى أكثرية من السكان، يطلق عليهم تسمية من هم دون خط الفقر.
يتزامن تدمير الدولة وبعثرة وتفكيك بنيتها مع تدمير بنى المجتمع، وعلاقة كل فرد مع الأشياء التي تصير نادرة، وتسبب ندرتها الفقر والجوع. تنعكس على علاقة الفرد بالآخرين. بالإضافة الى ما تحدثه الطائفية من بغضاء لأبناء الطوائف الأخرى. يؤدي حرمان الفقير من أساسيات العيش الى النظر للآخرين بعين وبصيرة لا يمكن أن تكون سوية. لا بدّ للفقراء المعدمين، وهم صاروا أكثرية المجتمع اللبناني، الى النظر ببغض لمن حولهم والكره لبلدهم ولعن الساعة التي ولدوا فيها هنا. الهجرة أو ما يسمى الانتشار اللبناني ليس مرده الى عوامل الجذب لدى البلدان الأخرى: الغرب لفرص العمل، بما فيه أستراليا؛ وأفريقيا وأميركا اللاتينية بما فيها من فرص للنهب والاستغلال. عندما ينفجر أهل تلك البلاد في ثورة اجتماعية، وحتى سياسية، ضد أحوال المعيشة، يكون لبنانيون مهاجرون من أصحاب الثروات ضحايا أبناء البلد لأنهم غرباء مستغلون.
مع اشتداد أزمة الفقر في لبنان، يظهر واضحاً تواطؤ الطبقة السياسية على افتعال ما يحدث أو مباركته. تدور معظم الحوارات السياسية، والتصريحات والنواءات، حول أمور هامشية، وقليلا ما يناقشون الأزمة وأسبابها وكيفية الخروج منها. يؤتى بخبراء اقتصاديين للحديث عن الموضوع. يدلون بآراء هي “من كل واد عصا”. لكن أحاديثهم تبقى لغوا مستطاباً لملء وقت الشاشات والإذاعات وأوراق الصحف. تعطيل الدولة هو في أساس كل ما يجري. غالبهم يتحدث عن عدم وجود الدولة. نادرا ما يتحدثون عن أن الدولة موجودة، ووجودها يجري تعطيله بقرار وتواطؤ أهل الدولة. التعطيل أحد أسبابه الدولة الموازية. لكن أهل الدولة الشرعية هم الأساس. الأرجح أنهم يتعاونون مع الدولة الموازية. حرمة المقاومة لا تستدعي التعطيل، لكن إساءة استعمال السلطة عند أهل السلطة وأحزابها تشي بأن هناك تواطؤاً بين هؤلاء وهؤلاء. تواطؤ على القبض على السلطة وإفقار الناس وشن حرب إبادة ضد المجتمع. مصادرة أموال الناس، وقصة الكهرباء هما من مواضيع التعطيل. لكن المواضيع الأخرى تشمل كل شيء تقريباً. نعيش في دولة صار كل ما فيها غير شرعي. تضج الأخبار لدى السماع بسرقة هنا أو هناك. لكن سرقة ما لدى المجتمع برمته فهي أمر مسكوت عنه. السكوت عن الجريمة مساهمة فيها. يتحدثون عن محاربة الفساد، لكن فساد الدولة والمجتمع محجوب عن النظر. هم كمن يرى شجراً ولا يرى الغابة.على كل حال، تعود قوانين الغاب لتحكم الدولة والمجتمع في لبنان. مشاركة أهل الطبقة السياسية فيها واضحة وضوح الشمس. كأنهم يريدون الإكثار من حوادث السرقة والفشل، لتغطية عملية السطو الكبرى التي يمارسها أهل السلطة. وهذه هي أولاً سلطة سياسية تتبعها السلطات المالية والدينية. الدين ضروري ليس للإيمان بالله بل لتبرير جرائم تحدث بحق الإنسانية.
الكلام يطول لكن لا بدّ من الإجابة على تساؤل: أين الناس؟ لماذا لا يثورون؟ ولماذا لا يهب الشعب؟ الجواب أن الثورة لا تحدث كل يوم. هي ليست مهنة أو حرفة. حدثت الثورة في 17 تشرين الأوّل 2019، كان ما بعد ذلك معالجة بالثورة المضادة المفضية الى إفقار الناس لإشغالهم بالأمور اليومية (السعي من أجل كسرات خبز لسد الرمق)، وإفقار الناس كي يصابوا بالوهن والإعياء. الفقر لا يصنع الثورة. ما صنع ثورة تشرين هو الطبقة الوسطى وقد تمت إزالتها وتدميرها عن سابق تصوّر وتصميم. ليس في هذا الجواب تقليل من قدر أو أهمية الفقراء في الثورة وفي كل كل ثورة، لكن ما جرى في العامين الآخيرين هو تجريد الثورة من سلاحها الأمضى.
ملاحظة أخيرة: عندما تحدث ثورة الفقراء، لن يستطيع أحد من أهل الطبقة السياسية أن يبقى في بيته. التتمة في العدد القادم عن ثورة الفقراء المعدومين وعن المجتمع الفاشل.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق