… وحتى لو كانت صورة صدام حسين مستسلماً للاحتلال الأميركي، للمرة الثانية، مهينة حتى الإيلام، فلا يعني ذلك بأي حال أن الاحتلال قد تحوّل بسحر ساحر إلى مخلص أو خاصة إلى »محرّر«، وأنه إنما يقدم هذه الخدمة الجليلة لشعب العراق، توكيداً لإيمان الإدارة الأميركية العميق بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها بحرية، أو تعبيراً عن التزامها قضية الديموقراطية وحقوق الإنسان..
إنه الاحتلال الأجنبي، بالقوة العسكرية القاهرة. إنه اعتداء صارخ على الشعب العراقي جميعاً، بعربه وكرده وأقلياته الأخرى، بل هو اعتداء صارخ على الأمة العربية جميعاً، بأقطارها كافة، وبمعزل عن آراء حكامها المشاركين منهم بالجهد العسكري أو المخابراتي (وهم كثر) والمتواطئين بغير أن يظهروا في الصورة (وهم أقلية فاعلة) والساكتين عن الحق لضعفهم… ولا يتبقى في جبهة الاعتراض الجدي إلا نفر يسير تتصدره سوريا ومعها لبنان، بمساندة معنوية ضمنية ممن يخافون الجهر بموقفهم حتى لا يحل عليهم غضب »الرب« الأميركي الجبار.
إنه الاحتلال الأجنبي، المسلح حتى أسنانه بقوى عسكرية متفوقة بحيث تصعب مقاومتها وصدها إلا من ضمن جبهة سياسية واسعة طليعتها عراقية وحاضنتها عربية ومداها دولي، يبدو قيامها متعذراً في المدى المنظور.
وهو احتلال أجنبي يتمتع بقوة تأييد دولي غير مسبوقة، لهيمنته على مقدرات معظم دول الكون، وعلى إرادات حكامها، بحيث تمكّن من تسخير »المرجعية« الدولية الأرفع، مجلس الأمن، لمصالحه.. بل ولأحقاده ومواقفه الانتقامية (كما مع فرنسا وألمانيا، وسوريا مرة أخرى).
إنه الاحتلال الأجنبي المعادي بالمبدأ كما بالمصلحة لشعب العراق، ومن ثم للأمة العربية جميعاً… وهو بهذه الصفة شريك استراتيجي، بالضرورة، للاحتلال الأجنبي الآخر، الإسرائيلي في فلسطين.
ولقد تبدت الشراكة، مرة جديدة، متينة حتى الاستفزاز، وثيقة حتى الجرح لمن ما زال يؤلمه الجرح من بين العرب، بين الاحتلالين: فالاتصال الأول الذي أجراه الرئيس الأميركي كان مع السفاح أرييل شارون، لكي يزف إليه »بشرى« اعتقال صدام حسين، في حفرة الإذلال تلك، بغير قتال.
إنه الاحتلال الأجنبي لا يبدّل من طبيعته المهينة أنه »أميركي«، أي أنه »بريمو« تحق له مصادرة حقوق الشعب العراقي في أرضه (بثرواتها)، وفي كيانه السياسي (كما عرفه وارتضى به وطناً)، وفي نظامه السياسي، حتى لو كان دكتاتورياً، دموياً، وظالماً حتى التوحش… فهو المعني بأن يقاومه فيسقطه ويبدّله… وليس بديله الأفضل والأكمل هو حاكم باسم جيش الاحتلال الأميركي بدلاً من الطاغية المحلي.
إنه الاحتلال الأجنبي، وقد جاء يحاسب العراقيين (مرة ثانية) على جرائم صدام حسين، التي ارتكب معظمها بتحريض منه، مباشر وعلني في الغالب الأعم، كما في حرب الثماني سنوات على الثورة الإسلامية في إيران، أو ضمني ولكنه »مفهوم«، كما في إقدامه على غزو الكويت، معتبراً أن تلك »جائزته« عن الخدمة الجليلة التي كان بالكاد قد فرغ من أدائها تحت لافتة »قادسية صدام«!
إن إدانة صدام حسين تبدأ بأنه فتح الباب لهذا الاحتلال الأميركي، لكي يهيمن على معظم الأرض العربية، ولا تنتهي بأنه وفر له الذريعة عبر ممارساته الوحشية ضد العراقيين لكي يدخل العراق فلا يجد جيشاً يصده أو يقاومه بالكفاءة التي شهدها العالم منه في غزو الكويت أو قبل ذلك في قتال إيران، والأخطر: أنه لم يجد مناخاً مؤاتياً لمقاومة شعبية شاملة وقادرة، ينتظم في صفوفها العراقيون جميعاً، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، كما هو مألوف في مواجهة جيوش الاحتلال الأجنبي في كل مكان وزمان.
إن جرائم صدام حسين أكثر من أن تحصى وأخطر من أن تغفر، لكن أفظعها أنه قد »حلّ« الشعب العراقي، وليس الجيش فقط… وهكذا دخل جيش الاحتلال الأميركي البلاد فإذا أهلها طوائف ومذاهب وأعراق وملل ونحل، معظمها محطوم الإرادة والقدرة، نتيجة الإذلال الطويل والقهر المريع والمجازر المتواصلة، ثم أنه منقسم على نفسه، عاجز عن التلاقي، فكيف بمواجهة الجيش الأقوى في الكون؟!
برغم هذا كله فإن الاحتلال الأميركي هو المنتصر على العراق والعراقيين والعرب أجمعين، بل أنه هو »قاهر« هؤلاء جميعاً، ومصادر إرادتهم وقرارهم.
وللاحتلال الأميركي شريك وحيد في السياسة كما في الأمن، في العسكر كما في الاقتصاد، هو العدو الإسرائيلي بقيادة السفاح أرييل شارون.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان