التقينا، لأول مرة، في موسكو.
كانت »السفير« في شهرها الاول، أما موسكو فكانت في ذروة مجدها الدولي: عاصمة لأمبراطورية العقيدة الممتدة والمتمددة فوق القارات الاربع مع اختراقات واعدة في »العالم الجديد«.
وكنا، كعرب، نحس باننا بين اهلنا فيها، خصوصاً أنهم مثل اهلنا حقيقة، فلاحون طيبون ككل الفقراء، مضيافون، خصوصاً ان الضيافة توفر فرصة إضافية لمزيد من الفودكا: قاهرة البرد والحزن المعتّق!
قال لطف الله حيدر، وكان في السفارة السورية هناك: سنخرج الى الطبيعة.
حملتنا السيارات وانطلقنا في الحديقة التي تكاد لا تنتهي، والتي تزنر موسكو بالهدوء. انحرفنا عن الطريق الرئيسي، واخذنا نخترق الغابات المنظمة كما الحزب، حتى في فوضاها.
عندما حططنا الرحال في البقعة المختارة، كان المطر يتساقط رخياً هيناً، وكان أغزر منه الحنين والشجن والإقبال على الحياة.
جاء الشعر بلا دعوة، بل هو كان قبلنا هناك.
وانطلق محمد عمران الذي لم أكن قرأت له الكثير، ينثر شعره قطر ندى… ولعلنا رقصنا، وغنينا، ودبكنا، وتسلقنا الاشجار، ولعل بعضنا أصرّ على ان يوازن بين ما شربه من ماء المطر وما شربه من الفودكا.
لكن المؤكد ان »قائدنا« الحكيم قد عرف كيف يعيدنا، وكل منا لاجئ، الى طيف الحبيب يهدهده ويحتضنه، حتى لا يضيع في غيهب النوم.
في البيت، طلبنا نحن الشعر لعلنا نصحو… وكان محمد عمران يهوم مع أخيلته، خارج الصحو والبيت، ويعيد تركيز الاشجار في الغابة التي احتضنت ذات يوم إحدى استراحات القيصر.
قال احدنا: نحن نعد الناس بالحياة الأفضل، أما القيصر فقد عاش الحياة الأفضل. ها هم رعاياه بعد ستين عاماً من الشيوعية ما زالوا يحلمون بالشبع. ليتني كنت القيصر، ما دام يستحيل أن نعيش جميعاً عيش القياصرة.
قال آخر: الحلم جميل كفاصل بين وجبتين دسمتين.
قال ثالث مصحّحاً: كفاصل بين امرأتين…
قال رابع، مطوراً النقاش في اتجاه ايديولوجي: شيوعية وجدلية ومادية واحلام؟! الشيوعية وعدت بإلغاء الاحلام عبر تحقيقيها، وها هي تلغي الاحلام فقط، ولا تنتج إلا انظمة اقوى لقياصرة جدد.
استفزت تعليقات الجماعة محمد عمران فهدر شعراً.
وشيئاً فشيئاً انتقلنا معه عبر الحنين الى »الملاجة« التي تعيش بالاحلام وعليها.
وغاب كل منا في »ملاجته« مصطحبا معه نتفاً من احلام محمد عمران.
أمس، جاء في الاخبار نعي الرجل الرقيق الذي حوّل قريته التائهة في بعض الساحل السوري الى مشاع للأحلام العربية.
مات محمد عمران.
ولعل بعض موته يعود الى انطفاء الحلم الانساني العظيم الذي شكلت موسكو الشيوعية، ذات تاريخ، حاضنته، ثم أطفأه العجز عن الارتقاء الى مستواه.
فالصواريخ العابرة للقارات لا تبلغ أفق الاحلام، حتى لو كانت رؤوسها نووية.
شعر محمد عمران أقوى.
كذلك احلام الفقراء في موسكو، وفي الملاجة، وما بينهما.
مسافة بمدى الأمل
تنبتين من قلب الصمت زهرة برية فتأخذينني بكليتي، ويتحول الجمع الذي يشاغلني ولا يشغلني عنك إلى إطار او خلفية لصورتك الباهرة.
لا يغيبك الغياب، ولا يُشحِب حضورك البعد. تسكنين القلب والفكر والعين وأطراف الأنامل وسن القلم.
يتعالى الضجيج من حولي ولا اسمع إلا صوتك عفياً شجياً ينضح حباً ولوماً وشوقاً إلى العراك المفتوح منذ اللثغة الاولى.
اغرق في شوك الاسئلة وأقساها أبسطها. تحبسينني خلف عصر يكاد ينقرض، ويتهاوى التحريض باقتحام العصر ونهوي مسحوقين بالتناكف داخله.
يمتد حبل الكلام الموجع من دون ان يتحول إلى حوار. الشكوى الدائمة مثل التأنيب الدائم عذاب مفتوح.
أطلبك في الغد فتأتينني من الأمس.
وتطلبينني اسطورة فلا استطيع ان اقدم اكثر من حقيقتي البائسة.
لا يتلاقى الحلمان الآتيان من التماثل، ونهرب من رهبة التكرار إلى وأد الأحلام.
تتسع بيننا المسافة بمدى الأمل: احدنا أمامه والثاني خلفه، وليس بيننا من يسعى إليه. لعله الخوف.
والخوف ذريعة جاهزة لتبرير الفشل في مواجهة الذات.
لا ينتهي الضعف باكتشاف الأضعف.
بين الحلم والواقع فجوة لها طعم الجحيم.
ليس الحلم مهرباً، ولا يأتي فقط في النوم.
يتكسر الحلم ويندثر متى غابت او عُطِّلت الارادة. يتحول إلى منام.
وليس حلاً أن نقزم الحلم لكي يدخل في سُم الواقع معتذرين بأن الحياة أضيق من أن تتسع لنا ولأحلامنا معاً.
***
سمعت طائراً يغني بحرقة: كان يشكو ضيق الأفق!
وكان في »القاع« من يحاول مد جناحيه ليكتسح مجالات ابهى في النهايات السحرية للأفق المفتوح.
ولم يكن ضرورياً التدقيق لأكتشف ملامحك.
مع كل خفقة جناح ارفع رأسي إلى فوق فأراك تمرقين كالشهاب، ويغلب حبي خوفي فأصيح: شقي السماء.
وعلى الأرض يدب كل المحرومين من اجنحة الحلم، والمقهورين بالمستحيل لأن إرادتهم معطلة.
حوار الظل الواحد
قال الظل للاصل: لماذا تصر عليّ ان أتقدمك؟!
رد الاصل على الظل: كي احميك، فلو كنت خلفي لأخذك مني الآخرون، اخاف ان تضيع مني وعني.
قال الظل للاصل: ولكنني لا استطيع، حتى لو اردت، الانفصال عنك والانتماء الى آخر. أنسيت أنّ لكل ظله، لا هو يبدله ولا هو يفقده. قد يستطيل الظل حتى يتجاوز الاصل، وقد يقصر فيصير قزماً يمشي بين قدمي صاحبه الطويل.
قال الاصل للظل: ألم يخطر ببالك مرة ان تبدل صاحبك؟
ورد الظل على الاصل: انا تحت، لا التقي إلا ظلالاً مثلي، هل يتبع ظل ظلاً؟!
قال الاصل للظل: وانا فوق، نادراًً ما التقيت إلا الظلال. تحت كما فوق، الكل ظلال، أما الاصل فمفقود!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لا تُعرف له مهنة غير الحب:
الحب نبتة برية يستحيل تدجينها. في حالات معينة تراها وقد شقت الصخر وزرعت جذورها فيه.. وفي حالات اخرى تراها وقد انبثقت مثل نجمة الصبح من زاوية منسية عند طرف شباكك، في حبة تراب لا توفر لها فرصة للنمو، ولكنها تطل فتقول لك »ها أنذا« ثم تطوي ذاتها على ساقها، وتغمض عينيها على صورتك قبل ان ترحل.
قلت أجادله: ليس ذلك حباً، انها في التعبير الرسمي »نزوة«!
ورد نسمة بهدوئه المثير: مَن يحاسب الوردة على عطرها ولمن تعطيه؟! الحب هو العطر وليس المتعطرين.. إبحث عن عطرك يا بنيّ.
آخر الكلام
} أقرأ، أقرأ، أقرأ، تتعب عيناي ولا تنتهي »صفحة« وجهك. لكأنها اختزلت موسوعة المشاعر جميعاً.
} الى متى تستمرين في الهرب؟ كلما بالغت في البعد أحسست بأنفاسك اللاهثة تحرق وجهي.
أعرف انك ستعودين، ولكنك إن تأخرت بعدُ فستعانين صعوبة في التنفس!
مثل نجمتين
نتطلع دائما الى فوق. شكراً. لقد تذكرنا ان الحياة ليست سديماً بلا معالم.. وحين رفعنا عيوننا الى السماء فقد رأيناها منورة بالامل، وكدنا نلامس الايادي المشفقة وهي تحاول شدنا الى العلالي.
اعتذار واحد عن أخطاء عديدة
لا أدري من اين ابدأ بالاعتذار، ولا كيف أنهيه، إلا ان ما وقع في »هوامشي«، يوم الجمعة الماضي، كان »مجزرة«: لقد تداخلت روايتان، وطارت بعض السطور، والتبس الامر على المصحح المتسرّع خوفاً من التأخير، فكانت الفضيحة.
ولقد وصلتني مجموعة من الرسائل وتلقيت اتصالات عدة للتصحيح والتصويب، تجملها هذه الرسالة من الدكتور ميشال جحا، أنشرها هنا بنصها الحرفي، مكرراً الاعتذار، متسائلاً: هل يكفي اعتذار واحد عن كل هذه الاخطاء؟!
تصويب
} حضرة الاستاذ طلال سلمان المحترم.
في »هوامشك« في »سفير« الجمعة 25/10/1996، الصفحة 11، الفقرة الثانية، تحت عنوان: لا تُجلسوا فوقها الاشجار والخشبا، ورد: »في سنة (1947) تحديداً، كان الحكم في لبنان يستعد لإجراء الانتخابات النيابية الاولى في العهد الاستقلالي… في تلك الفترة بالذات، كان امير الشعراء احمد شوقي مدعوّاً لحضور مناسبة أدبية في بيروت، فطلب رياض الصلح من الشاعر صلاح لبكي ان يستقبله ويهتم به ويشرح له الوضع السياسي مع التركيز على الانتخابات واحتمالات التزوير فيها، بحيث يضمّن قصيدته بيتاً او أبياتاً عن التزوير والمزورين…
ثم يتابع السرد، ويذكر كيف ان حليم دموس (شاعر الأرز) قد كُلّف بإلقاء قصيدة شوقي…
أولاً: ولد احمد شوقي سنة 1868 وتوفي سنة 1932، مما يجعل حضوره الى لبنان سنة 1947 متعذراً!
ثانياً: لقب (شاعر الارز) أُعطي للشاعر اللبناني شبلي الملاط (1878 1961)، وليس للشاعر الزحلاوي حليم دموس.
د. ميشال جحا
} من محمد يوسف طه في برج الشمالي صور تعقيب على الخطأ في »هوامش« الاسبوع الماضي، نقتطف منه:
»لربما يقصد الكاتب او الراوي بأمير الشعراء بشارة عبد الله الخوري، الاخطل الصغير، وقد اصبح اميرا للشعراء في مطلع الستينيات، قبل وفاته بقليل. وكان هذ الشاعر في صراع سياسي مكشوف مع الشيخ بشارة خليل الخوري، رئيس الجمهورية، الذي كان يَكرهه ويُكرهه على ان يذكر اسمه كاملاً للتفريق بينهما باختلاف اسم الاب«.