… وكلما ناقشنا الدولة، في موقفها، وحرضناها على أن تكون، وعلى أن تكون قوية، جاءنا جوابها البائس:
-وماذا في استطاعتي أن أفعل؟ لقد مزقوني وأضعفوا قدرتي وشلوا قواي واستولوا على مواردي، كل ذلك وهم يقولون إنهم مع الشرعية ويزعمون إنهم يدافعون عنها… أنا أضعف فريق، وغيري هم الأقوياء، ثم إن تركيبة البلد الطائفية تفرض علي مراعاة الحساسيات، بل الغرائز، وهذا يوصل في أحيان كثيرة إلى الجمود أو ما تسمونه العجز، والسبب هو الحرص على وحدة البلاد…
وتهتف الدولة في ختام مطالعتها بما مفاده: – أنا ضحية الجميع! الكل ضدي! الكل يتآمر علي، ثم تأتون لتحمّلوني المسؤولية؟! هذا ظلم ما بعده ظلم!؟ ارحموني يرحمكم من في السماء!
وقد ترق القلوب لهذا المنطق المستضعف بل المستسلم، وقد تذرف بعض النسوة الدموع، إشفاقاً. لكن الحكم بما هو مسؤولية عن الشعب والأرض، عن التاريخ والجغرافيا، عن سلامة البلد وأمنها القومي، عن وحدتها وسيادتها وإستقلالها وتنظيم علاقاتها مع الأخرين، لا يعترف بالعواطف الرقيقة، ولا يقبل الإشفاق بأي حال.
وبعيداً عن الاستفزاز بفتح الدفاتر القديمة، يظل مشروعاً أن نسأل الدولة: – وماذا فعلت، أيتها الدولة (وما أكبرها من كلمة)، على امتداد …سنوات ونيف، غير البكاء والندب ونظم المراثي في ما تساقط من نواحي البلاد وجهاتها في يد “الغير”؟! ماذا فعلت غير “الاتصالات المكثفة” وغير التوسط وغير الترجي والمناشدات العاطفية لمنع الطامعين من تمزيقك إرباً وإضعاف قدرتك؟! هل واجهت مرة، مرة واحدة محاولة من محاولات إضعافك؟! هل استخدمت حقك الشرعي وقوتك الشرعية لمنع “الغاصبين” وردعهم عن اغتصاب مواردك؟!
لقد ضعفت ذاكرة الناس، لكنهم بالتأكيد لم ينسوا بعد أنهم قي فترة من الفترات امتدت لأكثر من سنة، في بداية العهد، سلموا بالدولة تسليماً مطلقاً، واحترموا إرادتها، ورفعوا الصوت يطالبونها بقمع المخالفات جميعاً، بدءاً بضرورة إقفال الموانىء غير الشرعية، وانتهاء بالعودة لتنظيم محاضر الضبط بالسيارات المخالفة أو حجزها.
…
…ثم أن تركيبة البلد طائفية مذ كان، لكنها لم تمنع الدولة من أن تكون، ومن أن تكون قوية، وأحياناً بفضل هذه التركيبة. وشرط القوة هنا العدل، وأساس العدل أن تكون الدولة للجميع، لا أن تكون طرفاً أو لطرف خصوصاً وإن الدولة مدموغة أصلاً بكونها “دولة الطرف الواحد”.
حتى لانقول الطائفية الواحدة، والمطالبة دائماً “بانصاف” الطرف الآخر ورفع الغبن عنه.
أما وحدة البلاد فلم يصنها الضعف لا اليوم و لا في أي يوم والدولة التي تترك “الأقوياء” يعملون فيها تمزيقاً لن تستطيع مواجهة من هم أقل قوة… وهكذا فإن التغاضي عن أو “السماح” بقيام “دويلة” كان لا بد أن يستتبع ضعفاً عاماً وصل إلى حد العجز عن مواجهة أي كان، وصار من “حق” أي “قبضاي” أن يقفل الزاروب الذي يقع بيته فيه بمسلحية هو، وأن ينصب مدافعه هو للحماية أو “للتصدي”؟! وأن يرفع علمه هو، معلناً نفسه دويلة مستقلة ذات سيادة!
ولقد وجه الكثيرون اللوم إلى الدولة مراراً وتكراراً، وانتقدوا من موقع التسليم بشرعيتها والرغبة الصادقة في الخلاص من غيرها – تقاعسها عن الفعل بأشكاله جميعاً، بدءاً من إستخدام السلاح لمنع أي نزعة تقسيمية أو محاولة تسلطية، وانتهاء باستخدام سلاح الموقف الذي هو أفعل من السلاح ألف مرة.
وكان بين ما طولبت به الدولة، في سياق السجال حول ضعفها وقوتها، أن تجرب مرة فرض الخيار على الأخرين تمهيداً لفرزهم، من معها ومن ضدها، فمن كان معها شارك في الحكم وتحمل المسؤولية، ومن عارض التزم موقف المعارضة، في نظام ديمقراطي فإذا تجاوز هذا الحد ووجه بما يلزم من القوة، قوة السلاح وقوة الدولة المعنوية وقوة الرأي العام الذي سيكون – في هكذا وضع – متنبهاً واعياً وحامياً للنظام والدولة ووحدة الوطن.
ولطالما نصح الأصدقاء الدولة بأن تفيد مرة من الفرص التاريخية العديدة التي سنحت لها لتأكيد وجودها وإلغاء وجود المتجرئين عليها، الناهشين سيادتها وسلطاتها الممزقين وحدة الشعب والوطن…
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 10 نيسان 1981