صار الرئيس الأميركي جورج بوش منافساً خطيراً للسياسيين اللبنانيين المحترفين الذين يفترضون أنهم إن صمتوا يوماً وغابوا عن الإعلام نسيهم الناس فانفضوا من حولهم وذهبوا إلى من يفرض نفسه بالصوت والصورة على الجمهور.
صار لرئيس أغنى وأقوى دولة في العالم، الأكثر تقدماً والأعظم قدرات في البر والبحر والجو والفضاء وصولاً إلى ما بعد الزهرة والمريخ، تصريح يومي حول لبنان، بتفاصيله التي قد تسلي لكنها لا تؤثر على مصير البشرية… واتسعت ذاكرة هذا الرئيس الكوني الاهتمامات لأسماء بعض القيادات وبعض الأحزاب في لبنان، ولتصنيفاتها الدقيقة: من هم فرسان الديموقراطية والاستقلال، ومن هم الإرهابيون، من هم أبطال الحرية، ومن هم عملاء الخارج المتآمرون على السيادة والذين يحاولون إجهاض ثورة الأرز .
ومع أن المعنيين بهذه التصريحات اليومية لم يُظهروا ضيقاً أو انزعاجاً، ولم يجهروا باعتراضهم على التصنيف الرئاسي، فإن المنطق البحت يفترض بهم أن يشعروا بشيء من الحرج من هذه الشهادة لهم بأنهم كاملو المواصفات في عين الرئيس الكوني الأعظم.
أكثر من ذلك: إن غفل الرئيس أو نسي أو سها عن باله استدركت وزيرة خارجيته فعلقت على خطاب أو تصريح أو بيان لبعض القوى السياسية في لبنان، لتعيد تأكيد المؤكد في الموقف الثابت للإدارة الأميركية.
… فإن أخذت المشاغل وزيرة الخارجية بعيداً عن لبنان، ظل الناطق باسم البيت الأبيض يقظاً فعوّض غيابها ببيان أو تصريح، فإذا ما أخذته الغفلة وهو يتحدث عن موقف رئيسه من شؤون الدنيا وشجونها، عاد فاستدرك، قبل أن يختم كلامه، باستحضار لبنان ليجدد تأييده لحكومته الديموقراطية، وليحذر جيرانه من أن يتدخلوا في شؤونه الداخلية… أما حديثه التفصيلي أو تحذيرات مَن أهم أعلى مقاما منه في الإدارة الأميركية فليست تدخلاً، ولا هي تمس السيادة والاستقلال والقرار الوطني الحر..
ما يعنينا، في هذه اللحظة، أن اللبنانيين العالقين في دوامة أزمتهم السياسية الخانقة، التي تتدحرج نحو مخاطر مصيرية بين عناوينها الفتنة، قد رحبوا بتحرك بعض الموفدين العرب في اتجاه بيروت، بعدما كادوا ييأسون من نجدة يبادر إليها أخوانهم العرب، خصوصاً وقد وصلتهم في بعض الحالات أصداء لمواقف صادرة عن مسؤولين كبار فيها ما يتجاوز التخلي إلى التحريض وذلك عبر انحياز معلن لبعض الأطراف، ما يعطل احتمال قيامهم بدور الساعي بالخير.
رحب اللبنانيون بالأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، الذي يعرف كثيراً عن لبنان، بقواه السياسية المختلفة، وعن الوضع العربي المأزوم بعجزه، وعن الوضع الدولي ومواقف الدول الكبرى من التطورات الخطيرة التي تعيد رسم المصائر ومن ثم الخرائط في منطقتنا. وهذا العراق الممزق أشلاء والنازف دمه يومياً تحت الاحتلال الأميركي شاهد وشهيد، وهذه فلسطين التي تكاد تندثر قضية وسلطة وحلما بدولة في غياب خريطة الطريق .
رحب اللبنانيون، على اختلاف مواقفهم، بعمرو موسى، وتفاءلوا خيراً بتحركه ثم بمشروع المبادرة الذي باشر صياغته، عبر التشاور مع الأطراف المتخاصمة ، قبل أن يغيب لارتباط سابق، ليعود اليوم ليستأنف مسعاه الطيب.
ثم رحبوا، أيضاً، بالمستشار الرئاسي السوداني مصطفى عثمان إسماعيل، وهو يسعى لتحديد المشترك في مطالب الأطراف الذين يختلفون على تريب الأولويات، وأساساً بسبب الافتراق في تصور المستقبل.
… وكان في جملة ما أشعرهم بإمكان نجاح المبادرة العربية أنها اعتمدت المقترحات التي نجحت في ابتداعها ثم في رعايتها بكركي، والتي أجمع الأطراف المتخاصمون على الترحيب بها والقبول باعتمادها أساساً للحوار من أجل التوافق.
لكنّ للبيت الأبيض، في ما أعلن، موقفاً آخر… فقد عاد الناطق باسمه، أمس، إلى تكرار ما يعرفه العالم كله من تبنيه للحكومة، ولو أنها بتراء، ودعمه لها. والدعم في هذه اللحظة يعني تصليب موقفها حتى لا يلين أمام المبادرة العربية التي تبدّى أنها قابلة للنجاح، ولو مع كثير من الجهد، إذا ما عاد الأطراف إلى ضمائرهم وإلى مسؤوليتهم الوطنية في منع الفتنة، وفي استنقاذ ما تبقّى من الدولة ومن أمان شعبها ووحدته.
ومكابر من يفترض أن المبادرة العربية ستنجح إذا كانت الإدارة الأميركية ضدها. فالإخلاص، هنا، لا يكفي وحده لفتح الطريق، حتى لو ارتكزت هذه المبادرة على مقترحات وثيقة المطارنة الموارنة.
مع ذلك، لا بد من التمسك بالأمل… وعسى أن يكون عمرو موسى قد نجح في إقناع وزيرة الخارجية الأميركية، عبر اتصاله
الهاتفي بها، أمس الأول، بأن المبادرة العربية لن تأخذ لبنان إلى محور الشر ، وأن تعديل الحكومة في لبنان لن يهدد الاستقرار في المنطقة التي حوّلها الاحتلال الأميركي للعراق معززاً بالحرب الإسرائيلية على لبنان، إلى بؤر اضطراب مرشح لأن يأخذ الجميع إلى المجهول … أي إلى مسلسل من الحروب الأهلية التي لا تنتهي.
والخشية أن يجد عمرو موسى أن بعض الأطراف قد سحبوا قبولهم لبعض ما كان اقترحه، بوحي التحريض اليومي الذي تمارسه الإدارة الأميركية، وآخره ما سمعناه أمس على لسان الناطق باسم البيت الأبيض.
اللهم إلا إذا كان قصد البيت الأبيض أن يعزز الموقف التفاوضي للحكومة… وليس في ماضي هذا التدخل ما يوحي… بالخير.
أعان الله عمرو موسى المعزز الآن بمصطفى عثمان إسماعيل، ولنتمسك بفسحة الأمل، مهما كانت محدودة.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان