أعزل إلا من إرادته. مكشوف الوجه والقلب والجسد، لا يملك ما يستره إلا دمه. سائق، مجرد سائق، يقود الحافلة التي تعرف الطريق وأصول السير فوقها، نقاط التفتيش، المعابر ومواعيد الفتح والاغلاق، وأين يتوجب عليها ان تفتح أبوابها ونوايا ركابها، ومن يمكنه ان يركب فيها وبأية بطاقة وبأي اذن عمل.
فلسطيني، مجرد فلسطيني، غريب في أرضه عن أرضه، تطارده الريبة ومشاعر العداء و المخابرات التي تعظم قيمتها بقدر ما تكشف من »الارهابيين« قبل ان يصيروا أبطالاً او شهداء. مستوحد حتى لكأنه فلسطين كلها. ينام كل ليلة في قلب الموت، ويصحو كل صباح ليبدأ رحلته في قلب الموت فإذا ما عاد حياً الى البيت تلبَّث ينتظر الغد متلهفاً: لقد ربح عمراً جديداً، ولسوف يمكنه ان يطعم أطفاله يوماً إضافياً.
رجل بلا تاريخ، لا تأتي على ذكره السجلات، ولا يلحظ وجوده »كلاب الصيد« المتخصصون في الخطرين من الرجال. خاض امتحانات انكار الذات فنجح، فعينته الشركة الاسرائيلية سائقاً لواحدة من حافلاتها المدجنة، مجرد سائق يقال له: امشِ، فيمشي، قف فيتوقف كا لصنم.
فلسطيني، مجرد فلسطيني يعيش داخل ذاكرته. واحد من ثلاثة ملايين واهمين مثله، يتحدثون في الماضي وينسون المستقبل، ويكتفون من حاضرهم بكفاف خبزهم. يعيش مع مليون مثله في »الضاحية الجنوبية« لفلسطين، وتحديدا في حي الشيخ رضوان من مدينة غزه، التي ما زال وأمثاله ينسبونها إلى »بني هاشم«.
انه لا أحد. مجرد سائق متبطل معظم الوقت، يبيع لحمه من أجل يوم عمل لكي يطعم أولاده الخمسة والزوجة التي لا تتوقف عن الحمل إلا فترة الرضاعة. فهو قد تجاوز الثلاثين من عمره من زمان، وبات خارج مدى الطيش والتهور، ولو لم يكن بهذه الصفات لما امكنه ان يقود الحافلة التي تحمل من الضاحية الجنوبية من فلسطين، غزة، الى قلبها الذي سلَّم العرب الآن بأن له اسماً آخر هو »اسرائيل« خمسين من العمال أو أكثر، يجيئون من فلسطين السلطة الى فلسطين الاحتلال لكي يبنوا البيوت ويوفروا الخدمات لاعدائهم الذين أخذوا منهم الأرض وحق الحياة.
وهو عاقل… بدليل انه اوصل »ركابه« العمال الذين جاءوا مثله من غزه الى مقار اعمالهم، ثم عاد بها وحيداً الى »مسرح الجريمة« جنوبي تل ابيب.
أين يكمن السر؟! وما الذي اهاج هذا السائق المدجن بالفقر والقهر والاذلال اليومي، فجعله »يهجم« بحافلته الكبيرة على ذلك التجمع من الجنود الذين وجدهم قد اجتمعوا كأنما هو على موعد معهم، فأجال بينهم هذا الصندوق الحديدي ورجله على دواسة البنزين، كأنه لا يريد ان يستثني منهم احداً!
هو بالقطع لم يكن ثملا… من أين له ثمن الشراب، وهو عاطل عن العمل منذ وقت طويل، ومفلس طبعا، فهذه رحلته الثالثة فحسب، وليس في »بيته« المكوّن من غرفتين ما يسد الرمق، فأين منه عن الشراب؟ هذا قبل الحديث عن جو التزمت الديني الذي بات هو السائد في التجمعات الفلسطينية، مدينية كانت ام ريفية، اهلها من ابنائها الاصليين ام لاجئون جاء بهم الهرب من المجازر التي قدّمت الى العالم هذا النجم السياسي الصاعد ارييل شارون، في جملة »أبطال« آخرين كان عليهم ان يفرغوا الارض من سكانها الطارئين الذين شغلوها طوال آلاف السنين ليعيدوها الى الذين نسوا اوطانهم الفعلية فهجروها وعادوا الى »ارض الميعاد«؟!
ما السر يا ترى الذي حول سائقا مجرباً، خاض الامتحانات جميعاً بنجاح، وأعطي البطاقة الممغنطة، وترخيص الدخول الى جنة الدولارات والنساء الجميلات وملاعب اللذة والمتعة، الى »إرهابي« خطير، يسحق بحافلته هذه النخبة من جيش اسرائيل، بغير مبرر او سابق إنذار؟!
لا بد من علماء نفس، لا بد من محللين متخصصين في كشف مكمن النزعة الى الارهاب في صدور البشر.
أتراها المشاهد اليومية التي تملأ عينيه: جرافات اسرائيلة تغتال بيوتاً فقيرة لفلسطينيين فقراء؟! دبابات اسرائيلية تقصف فتية فلسطينيين، وعساكر يطاردونهم بقذائف الغاز السام في الطرقات المتربة للاحياء التي يتزايد سكانها على مدار الساعة؟! حوامات اميركية من طراز أباتشي التي واحدتها بأسطول تطارد رجلاً فرداً وتقصفه ببضعة صواريخ لأن »الموساد« تشتبه بابنه؟! مواكب الشهداء اليومية الذين يقتلهم المستوطنون حجباً لاعتراضهم على مصادرة أراضيهم؟!
أتراه محمد الدره الذي لا يفتأ يُقتل كل يوم، ويحاول الاحتماء بحضن أبيه؟! ثم أولئك المثله الذين لا يجدون حضنا قد لا يحميهم ولكنه يمنحهم الدفء في لحظة الافتراق؟
أتراها مواكب النساء المزغردات في وداع الشهداء، ومواكب الرجال الذين يهتفون بأصوات مخنوقة »والشهيد حبيب الله«؟، بينما يشتعل في عيونهم الغضب المقدس والتحدي المفتوح: أن يثبتوا ان من سبقهم ليس أفضلهم، وإن من نجا ليس الجبان أو المتخلي أو المفرّط بالحق المقدس الذي لا يباع ولا يرهن ولا يموت حتى لو مات صاحبه دونه؟!
أتراها الديموقراطية العنصرية التي لا تفتأ تُنجب سفاحاً اثر سفاح؟!
أتراه اليأس من احتمال أن يتأنسن الوحش داخل الاسرائيلي؟!
أتراه الوجع من مساومات السلطة التي كلما ظن أنها وصلت الى المحظور ولسوف تتوقف حكماً، تمادت بالوهم أو بالخوف من الأسوأ، كأنما الأسوأ لم يأت بعد؟!
أتراه ذل القهر والانسحاق تحت وطأة التخلي العربي الذي لا تخفف منه غزارة التغطية الفضائية للجاني والضحية على قدم المساواة، مع ملاحظة فارق بسيط: أن الجاني يتحدث فيتهم ويدين ويبرر، بينما المقتول أخرس وإن كانت جراحه أفصح من أن تحتاج لكلمات؟!
أتراه كل ذلك معا قد صنع من علاء خليل أبو علبه سائقاً بهذه المهارة في اختراق الحواجز، ودمه دليله، وصولاً إلى من يرى أنهم قتلوا ويقتلون الشمس والأمل والحق والأرض وأبناءها الطيبين على كامل مساحة فلسطين، ما قبل 1948 وما بعد أرييل شارون الخلف الصالح للسلف الصالح ايهود باراك وسائر جنرالات السلام الاسرائيلي من أهل اليمين الصهيوني أو من أهل صهيونية اليسار؟!
أتراه انتصار ذلك الشقيق اللبناني، بإرادته وروحه، على الاحتلال؟!
أعزل الآن إلا من دمه وإرادته التي تؤكد حقه في وطن.
من كان في وطنه ليس وحده. الوطن هو السلاح. الوطن هو الحياة، الوطن هو مستقبل الأبناء المتروكين في حي الشيخ رضوان، والذين استقروا في قلوب أهله ولن يتخلوا عنهم أبدا، إلا إذا طلبهم الوطن.
علاء خليل أبو علبه: أعظم الأبطال هو الرجل العادي مثلك.
علاء خليل أبو علبه: أعظم الرجال هو الذي يصير بوطنه بطلاً.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان