قال الصديق القادم من الولايات المتحدة الاميركية التي يعرفها بأكثر مما يعرف موطنه، سياسياً، ويستطيع ان يحلل وان يفهم وان يشرح مواقفها مستعيناً بالعلم والخبرة والتجربة الشخصية الطويلة: انتم لا تعرفون الحقائق السياسية الفعلية في تلك البلاد. انتم تميلون غالباً الى تشبيه الاميركي، سياسياً، بالكاوبوي، اما انا فأرى الاميركيين، في السياسة، نازيين. انهم نازيون حقيقة لا مجازاً. النازية ليست التعصب القومي فحسب، النازية، أساساً، اعتماد القوة لفرض الارادة على الاخرين. واميركا لا تفتأ تفرض ارادتها، بالقوة، على الجميع، والامثلة اكثر من ان تحصى وعلى امتداد العالم كله. لا تتوقف الا حيث توقفها قوة الاخر. وبهذا المعنى فان السياسة الاميركية نازية بأكثر مما كان هتلر!
كنا نتحدث عن الوضع في الجنوب، وعن الموقف الاميركي من التهديدات الاسرائيلية التي تراوحت بين التلويح بالانسحاب من طرف واحد مع »تعهد« بضرب البنى التحتية في لبنان اذا اطلقت رصاصة واحدة على جنود الاحتلال، وبين الانذار بالرد المدمر مع استمرار الاحتلال.
قال الصديق الآتي من واشنطن في زيارة عائلية: ما يعني الادارة الاميركية، الان، وبالتحديد الرئيس بيل كلينتون هو انقاذ او تمرير الاتفاق الذي سهر على انجازه، »اتفاق واي«. انه يخوض معركة الاتفاق وكأنها حربه الشخصية. ولا استبعد ان يكون رد فعله أقوى، وربما اسبق من رد الفعل الاسرائيلي. انه يريد هدوءاً على الجبهة اللبنانية، كما في الموقف السوري، حتى لا تشجع عمليات المقاومة هنا المعترضين داخل فلسطين فيتحركون بما يحرج سلطة عرفات ويخرج نتنياهو عن »انضباطه« المؤقت حرصاً على هذا الدور الاميركي المدجِّن للفلسطينيين.
كان الصديق يتحدث وليس في علمه، او علمنا، ما تضمنته الرسائل الاميركية المتوالية والملحاحة التي وجهت في عطلة الاسبوع الى لبنان اساساً، والى سوريا من بعد، والى حكومة التطرف الاسرائيلي، استطراداً.
ثم فهمنا جميعاً، ان الرسائل الاميركية الى اللبنانيين خاصة، والى السوريين ضمناً، هي عبارة عن اعادة صياغة للتهديدات الاسرائيلية توحي بان القصف سيبدأ فوراً، وان واشنطن لن تستطيع منع نتنياهو من الرد القاسي، وانه ليس امام لبنان غير تلبية المطالب الإسرائيلية، وإلا فعليه أن يتحمل النتائج!
ويبدو أن الرد اللبناني كان حازما، وقاطعا في وضوحه: ان المشكلة في الاحتلال، والمقاومة حق مشروع، خصوصا وأنها تتحرك وتعمل وتضرب المحتل في أرضها، وان الموقف الأميركي »الجديد« يتجاهل »تفاهم نيسان« ويسقطه، وهو »التفاهم« الذي تمّ على يد الإدارة الأميركية، كمعالجة مؤقتة للوضع المتفجر في الجنوب نتيجة للاحتلال الإسرائيلي، فإذا كان ذلك ما تقصده أو تهدف إليه واشنطن فهو تنصل من مسؤوليتها المباشرة، وفي كل الحالات فإن لبنان لن يساوم على أرضه ولن يجعل من جيشه حرساً لحدود الاحتلال الإسرائيلي.
ويبدو أن الرد اللبناني قد ألمح إلى أن إسرائيل تحاول استغلال المرحلة الانتقالية بين عهدين، وانهماك المسؤولين بتشكيل حكومة جديدة، وإذا كان موقف تل أبيب مفهوما فإن موقف واشنطن هو غير المفهوم والذي يمكن أن يفسَّر بأنه ضغط مباشر ومحاولة للتأثير على »العهد الجديد« في أيامه الأولى، وهذا »ابتزاز سياسي« لا يمكن لأي مسؤول لبناني أن يقبله أو يخضع له.
ونعود إلى الصديق الآتي من واشنطن ومعلوماته التي تفيد، في ما تفيد، ان الادارة الأميركية، وتخففا من الحرج الذي تستشعره نتيجة تخليها عن »العملية السلمية« التي رعتها انطلاقا من مؤتمر مدريد، حاولت أن تلوح لدمشق، وعبرها لبيروت، بأنها تنوي إيفاد مارتن انديك »لاستطلاع المواقف« ودراسة إمكان تحريك المسارين السوري واللبناني، ولكن الجواب كان واضحا: على الرحب والسعة، من حيث المبدأ، ولكن إن لم يكن بيده جديد يعرضه فلماذا مشقة السفر وخسارة الوقت في إعادة التعرّف الى المواقف المعروفة، والتي لم يطرأ ما يبدلها؟!
وختم الصديق بقوله: ان الهجوم الأميركي مستمر، وقد يتم تصعيده، إلا إذا جوبه بموقف حازم ومكلف بانعكاساته المحتملة على المصالح الأميركية في المنطقة. ان أي تراجع سيدفع بالأميركيين إلى تشديد الحصار والضغط، مما يتيح لنتنياهو هامشا أوسع للحركة. أما الصمود فسيفاقم المشكلة الإسرائيلية الداخلية، وسيدفع الأميركيين، البرغماتيين برغم كل شيء، إلى التوجه بالحديث الى الطرف الآخر، خصوصا وهم يعرفون حراجة وضعه الداخلي، والأهم: حراجة وضع عرفات وسلطته المفلسة، إلى حد أن كلينتون شخصيا يقوم الآن بدور التحصيلدار لحسابها..
ولم نكن بحاجة لأن نطمئن الصديق إلى صمود لبنان، ومعه ومن قبله سوريا،
فالأرض تشهد، وهي أفصح الشهود..
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان