لا »منجد« بعد اليوم. اغلق عبد الله العلايلي »أحرف العلة«، وارتحل في قلب الصمت إلى الضفة الاخرى.
لم يستسلم، ولكن اخذته سنة من النوم. لم ييأس، ولكنه متعب يحتاج الى شيء من الراحة والهدوء وفحص الضمير.
لعقود طويلة وهو يقاتل، نادراً مع الآخرين وغالباً لوحده، وبالقلم الرصاص والكلمة المتوهجة والروح المتوثبة واللهجة الزاجرة. لطالما احزنه الجهل باللغة اكثر من الامية، واستسهال الهرب إلى اللغات الاخرى مع توجيه تهمة العقم إلى لغة القرآن، والتحريف في الدين والانهزامية في السياسة، فلما اقعده المرض وعجز الشيخوخة ظل يقاتل، وحيداً، التخريف في تزيين الالتحاق بالعدو لانه الأقوى.
النصر ثقافة، والهزيمة ثقافة، وأول الثقافة اللغة.
تعودنا أن نرفع سماعة الهاتف فنطلبه لنسأله حول الملتبس من قواعد الصرف والنحو، او حول الاكمل معنى من المصطلحات المستولدة لتلبية الاحتياج من دون الاسترهان للكلمة الاجنبية.
ولانه »المرجع«، فلم نكن نهتم بأن يكون الوقت متأخراً في الليل. كنا نفترض انه كجواب قاطع في انتظارنا لا يسهو ولا ينام، نلقي عليه أثقالنا ونرتاح إلى حِكمه ثم نتركه للتعب وهو يبحر في خضم لغته البهية الصعوبة.
لعلهم الآن قلة اولئك الذين يتذكرون »الشيخ الاحمر«، داعية الاشتراكية الاول، والمحرض الابلغ على الثورة والخروج على المتسببين في جوع الناس بالسيف مشهراً!
لكنني واحد من الذين تسكن وجدانهم تلك الصورة الخارقة لمهرجان المنارة، الذي سمعت فيه وأنا يافع اسم عبد الله العلايلي للمرة الاولى، وسمعته خطيباً ما يزال صوته يدوي في وجداني.
اذكر اننا جئنا مجموعة من الفتية محمولين على موجة الحماسة العارمة والاحساس المبهم بالقدرة على إحداث التغيير »الثوري« وإسقاط »الطاغية« بشارة الخوري، بطل الاستقلال والرئيس الاول لدولته والطرف الثاني في الصيغة المبتدعة للميثاق الوطني.
واذكر اننا اضطررنا إلى تسلق الصخور في »المنارة« التي لم يكن في مدرجاتها التي تنتهي بالبحر الا بيوت قليلة متناثرة بين الكثيبات الرملية وتلك الشجيرات التي لا اسم لها، والتي تتغذى من هواء البحر.
جاءت الصعوبة مع ارتقاء عبد الله العلايلي المنبر.
لم نكن نرى منه إلا عمامته البيضاء وكميه الطويلين وهو يشير بيديه محتدماً، وصوته الهادر يعطي لاحلامنا في استيلاد الدنيا الجديدة مداها الارحب.
كثرة كان الخطباء، لكننا عدنا وليس في وجداننا إلا صوت عبد الله العلايلي وعباراته المتينة البنيان والتي شكلت التحدي الاول لمعرفتنا بلغتنا الجميلة والقادرة على اصطناع الثورة واحلامها السنية.
… ولقد ذكّرته في واحدة من زياراتي الاخيرة بمهرجان المنارة، واستثرته حتى استعاد مقاطع من خطبته العصماء فيه.
كان على »الطراحة«، تلك، في مجلسه المألوف، ومن خلفه المسند المستند إلى المكتبة التي يتساند فيها اولئك الذين يجتهدون في ان يقولوا وفي ان يأخذونا إلى المعرفة… وكانت العمامة ترتاح بعيداً عن رأسه الصغير المكتنز بألوان الفكر، والمزدحم برايات الثورة ورياح الرغبة في التغيير، في الدين والدنيا وما بينهما. وتذكر معي حتى ادق التفاصيل.
لم تشخ روحه ولا فترت عزيمته.
لقد عاش للثورة وارتحل طلباً لها.
ولسوف يظل عبد الله العلايلي حادي الثورة لاجيالنا الآتية، في اللغة كما في اسباب الحياة، في الدين كما في العلم وضروب المعرفة.
كاد ان يكون نبياً، ذلك الازهري الذي اخذته ثقافته المحمولة على إرادته إلى البعيد البعيد.
بدايات الزمن الصعب
محمولاً على لهفتي وجزعي، اسعى إلى اللقاء الخطير.
جاء زمن الحساب، ولا بد من شجاعة الاعتراف وذل الاعتذار عن الغلط!
القدر عذر مفتوح لمن يرغب في التلطي هارباً من ذاته، لكن الخطأ ولود، كلما طمست منه بعضه غمر طوفان البعض الثاني المكتب والبيت والشارع، ووقف يصرخ بالناس من حولك ان اضبطوا هذا الجبان الذي يرفض الاعتراف بي؛ أنا الذي احمل اسمه وملامحه والتوقيع العشوائي!
تلك هي ظروفنا!!
هذا ما قدرني الله على إنجازه!
لم يسعفني حظي بغير هذا.
وقد تتدرج المخاتلة في مهاوي النفاق: لكم ان تصلحوا ما افسدته أنا والدهر.
لكن الحب بحر بلا ضفاف، وموجه عالٍ ستضيع في طياته كل الملامة والعتب والتحسر والندم على الذي وصلنا فغطانا بالصح والغلط.
استضيء بالحب لاعرف طريقي.
وها هو النور يغمر مسالك العمر وينوّر الوجدان الذي كاد يغطيه رماد التعب واليأس من احتمالات التغيير المجهضة.
لا يتأخر الفجر مهما تكاثفت عتمة الليل. في موعده بالضبط يؤذن الديك للنهار الجديد.
أكاد اخرج إلى الناس مبشراً بانطواء زمن الليل.
هدوءاً، ايها المتعبون: لقد بدأ الزمن الصعب.
تهادي فوق اهداب العين وأنت تجيئين الينا.
لك العين والهدب ومتعة النظر، بكِ نرانا، نراكِ، نرى الفجر.
مظلة الليل
تتسلقين النهار نجمة نجمة، حتى اذا بلغتِ مدار الجنون اهبطتك مظلة الليل زهرة برية على شاطئ كفي المهجور.
ينقرني عصفور البعد في خدي، ويعرش الياسمين في بيدر شعرك، فتنشق عتمته عن ابتسامات حيية، ويضيع مني ظلي.
ليس للثرثرة وظيفة في الموعد الذي يجيء من خارج الساعة.
في قلب الهمس الحميم يكون الموعد، ولتتهاوى دورة الفلك على اعتاب المراهقة التي لا تشيخ.
لا عتاب، يُضجر العتاب الفراش، ونهر الرغبة دافق يسحب إلى البعيد حكايات النهارات البليدة، وينطلق الجسد يغني ولا يتعب نشيده الازلي البهيج.
يأتي بك الليل. يأخذك مني الليل. يأخذ الليل الليل، ويتثاءب في الخارج النهار، فينقره عصفور البعد في خده قبل ان يطير وقد كتب على جناحيه موعدنا التالي.
بين الرفتين نلتقي،
عند انبساط الجناحين،
على مفرق النسمة الاولى،
وبعد النجمة التاسعة بقليل،
في قلب بيدر الياسمين الخارج من عباءة الليل لانه مل النعاس.
الصنم والمنطق
تجمّد، فجأة، مثل صنم،
ظلت يده ممدودة إلى الذين تقدموا يصافحونه مرحبين، وظلت تلك الابتسامة الباهتة مجمدة فوق شفتيه، وظل لسانه يتحرك فتصدر عنه همهمة لا هو يقصد بها معنى ولا سامعها يفترض فيها غير ارتباك الفرح بالحفاوة… لكنّ عينيه كانتا مثبتتين عليها.
من أين انبثقت زهرة الياسمين هذه في دجى الليل، فأشعت بهاء وذكريات معطرة؟!
حفّ به موكب الطيب والنشوة حتى اقتحمه.
اختلجت كفها في يده، وغشى الدمع فرح العينين، وسحبته همستها الوانية بعيدا عن الجمع وألقته فوق غمامة بيضاء تسري متهادية مع اطراف الحلم حتى لا تهزه فتبعثره بدداً.
سمع نفسه يقول: زمان!
وسمِعَتْ صوتها يقول: لم تتغير!
لم يتغير؟! بالتأكيد لا! فماذا عنها؟! وهل تطمئنه، ام تطمئنّ عليه؟! هل تعيد وصل ما انقطع، ام تلومه على انه لم يعترف بالواقع الجديد؟! هل تنفخ في جمر الايام التي كانت، ام هي تهيل رمادù ليصفو لها زمانها الجديد؟!
لكن الفرح في العينين يشع في قلب اللحظة ليصلها بمنبته العريق، وارتعاشة اليدين وقد احتضنتا الآن كفه، والحرج الذي تكاد تتعثر به وهي تقدمه الى مَن لا يعرف، وحفيف الثوب الابيض المطرز بأنفاسها ونبض الخافق المعذب مرتين…
جاءت الصدمة الثانية بأسرع مما توقع:
ألا تعرف عمو؟! لقد تربيت على يديه اكثر مما في بيت ابي!
صافح »غريمه« وهو يجاهد لينتزع نفسه من قلب الصدمة:
تشرفنا، لطالما حدثتني عنك! انها تكنّ لك تقديرا خاصا جعلني أتشوّق الى لقائك.
خرج صوته بغير إرادته: أتمنى ان تكون تربيتي صالحة.
والنعم!
جاءته الكلمة كاللسعة. لم يسكت رجلها على الظلم، وهو البادئ، وقد ناله منه ما يستحق.
حاول الابتعاد عنها، فعجزت قدماه عن سحبه، ودارى ارتباكه بأن افتعل حوارا أجوف مع زميل دراسة قديم… ثم استغرق في اللعبة فأخذ يتأمل نفسه عبره: الصلعة لامعة كمرآة، والاسنان الصناعية تطل بحقيقتها القاسية قضماً لبعض الحروف والمعاني، والتعب من الوقوف الطويل لا يعادله إلا التعب من المشي، والوزن الزائد يضخّم التهدّل الذي أصاب الجسد.
هل هو مثله؟!
لماذا الاستهجان، اذاً، وتعريض الذات الى امتحان بائس ومحكوم بنتيجة واضحة ومنطقية؟
منطقية؟! وهل يتبقى معها منطق؟!
هي من أغراه برمي المنطق في سلة المهملات، قبل سنين، تعود اليوم لتطالبه باحترام المنطق؟!
وأين هو بين »المنطقين«؟!
أين هي؟!
أين هما؟!
تسلل بهدوء إلى الخارج، تلاحقه اصداء صوت المغني الرديء الاداء.
تنفّس ملء رئتيه، وجلس تحت شجرة يحاول ان يستعيد تفاصيل الصفحة التي انطوت… ولكنه افتقد المنطق، فقام يمشي لعله يعثر عليه في بقعة منوّرة بين عتمتين!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لا تعرف له مهنة إلا الحب:
الزمن جبار. هو أقوى من امواج المحيط. أقوى من العدم الذي تكتب الصحراء سيرته فلا تنفد رمالها.
الحب أقوى من الزمن، وأبقى…
لم اجد موجبا لكي اعلق على ما سمعت، لكنني التفت إلى حيث كانت تشير اصابع »نسمة«، فرأيت ظلا كشبحين متعانقين.
قال »نسمة«:
هذان حبيبان منعتهما الايام من ان يكون واحدهما للآخر، ثم فرقتهما، فرمت واحدهما خلف بحر الظلمات، بينما بقي الثاني يكدح في قلب مأساة قلبه ويتعب لكي ينسى، حتى انه تزوج…
توقف لحظة ثم اضاف:
أتراهما الآن؟! لقد تلاقيا مجدداً. بعد عشرين عاماً من العذاب في قلب الهجر والبعد واليأس، اكتشفا ان الحب لم يمت، وان ورده ناضر… ألم يدخلك العطر في افياء النشوة! هيا، تنشق حباً ملء رئتيك!
آخر الكلام
دخل الميل في المكحلة… لم يكن ثمة كحل.
حملوا الكحل في الصناديق… لم يجد احد الميل.
اشتروا ألف ميل وميلا… لكنهم اضاعوا المكحلة.
ملأوا المكاحل كحلاً، اعدوا المكاحل واحدة واحدة،
لم يجدوا عينا واحدة تستحق الكحل.
قالوا: العين اجمل من الكحل… العين اجمل من الشمس. كسروا المكاحل، وجعلوا الاميال اقلاماً!