نشرت في جريدة “السفير” بتاريخ 30 ايلول 2005
للأيام أسماء وملامح وصفات مميزة وعلامات فارقة كالبشر..
يُلبس البشرُ الأيامَ عاطفتهم، ويُسقطون عليها أمانيَّهم، ثم يتخذون منها مناسبات للفرح أو للتأسي أو للاستذكار والمراجعة.
ولأن المرحلة الراهنة من التاريخ العربي الحديث مثقلة بالهزائم والانتكاسات والخيبات، فإن الأيام تتوالى كقافلة من الأرامل المتشحات بالسواد: توارت البدايات عن العيون، أما النهايات فتتبدّى بعيدة جداً، إذ تكاد تنعدم احتمالات التغيير وكسر السياق أو الخروج منه وعليه.
فحزيران مثلاً، هو شهر سقوط آخر معاقل الأمل بزمن عربي مختلف أمام الهزيمة التي تبدّت عسكرية ولكنها سرعان ما تكشّفت عن انهيارات مفجعة في مختلف مجالات التمني والوعد بغد أفضل.
بعد 5 حزيران 1967، وفي ظل الشعور بالوطأة الثقيلة للمسؤولية عن الهزيمة، لاح في الأفق طيف لاحتمال أن تتم مراجعة شاملة على مستوى قيادة الأمة للتصحيح، بالعودة إلى الناس الذين كانوا قد انتبهوا إلى انهم اخطأوا حين انجرفوا بالحماسة إلى تفويض »القائد« والانسحاب من القرار، اطمئناناً إلى ثقتهم المطلقة به، التي صوّرته معصوماً لا يأتيه الخطأ من خلفه ولا من قدامه، ويُغني عنهم بينما هو من دونهم »خطّاء«.
… فلما جاء يوم 28 أيلول 1970 انطفأ ذلك الاحتمال مع رحيل جمال عبد الناصر، المباغت، لحظة نجاحه في وقف شلال الدم العربي الذي تفجر في الأردن عبر الصدام بين الجيش الملكي في الكيان المبتدَع لحماية إسرائيل، وفدائيي الثورة الفلسطينية التي كادت تتحول الى نظام.
واستذكر الناس أخاً شقيقاً ليوم 28 أيلول 1970، في السنة 1961، حين انطفأ حلم الوحدة العربية بسقوط نواتها الأولى التي توهم العرب انها ستكون البداية إلى استعادة المجد التليد: الجمهورية العربية المتحدة.
المصادفات تكتسي طابعاً قدرياً، أحياناً… وهكذا تكاملت دائرة الحزن وصار أيلول شهراً أسود: نهايته المثقلة بالانفصال وتهاوي وحدة مصر وسوريا، تستولد بدايته الأخرى المطرزة بدم الفدائيين الفلسطينيين في عمّان وسائر أنحاء الأردن، لتجيء الذروة مع 28 أيلول (مرة أخرى) برحيل الرجل الذي صار رمزاً، والذي أثقله الاحتياج بالأماني والاحلام المحبوسة في الصدور منذ قرون حتى ناء بحملها فارتحل، وقد أراد له خصومه خصومها ان يأخذها معه.
* * *
ان تستذكر 28 أيلول 1961 كذكرى لاستشهاد الحلم، اليوم، بدعة يأخذها عليك أبناء العصر الأميركي فيصنفونك من أهل الجاهلية.
كيف لمن يعيش انفصالاً بين قلبه ولسانه، وعن أخيه وجاره، عن احلامه وأمانيه، ان يفهم فيقبل حديثاً عن وحدة بين »دولتين« عربيتين، وهو يرى »الدول« العربية كيانات هشة لعروش ملكية أو جمهورية متهالكة تساوم بأوطانها لحفظ رؤوسها، وتقتل »رعاياها« أو تسلمهم للأجنبي بتهمة »الإرهاب«؟!
تحولت الهزائم إلى خنادق من دم بين الأقطار التي كانت قطراً واحداً فجُزئت، أو كانت كيانات متقاربة تفرض عليها الضرورة ان تتكامل فتباعدت تاركة للأجنبي ان يفرض وصايته عليها جميعاً.
صار المتحدث عن الوحدة العربية واهماً أو مخرفاً.
وصار من يأتي على ذكر جمال عبد الناصر »ماضوياً«، يصنف بين عبدة الأصنام.
وصار من يقول »بالثورة« أو »المقاومة« طريقاً إلى تحرير الأرض بالإرادة والقتال (نعم القتال) »إرهابياً« تُستصدر ضده القرارات في مجلس الأمن الدولي، ويُطلب إلى حكومته ان تقتله بالرصاص، أو بالسم، أو بإرساله إلى معتقل »غوانتامو«.
* * *
أعترف بأنني واحد من أولئك الذين أخذتهم »الغواية« إلى التظاهر في بيروت فرحاً بإعلان الوحدة العربية في 22 شباط 1958، كما تظاهر مئات الآلاف غيري في طرابلس وصيدا وصور وحاصبيا وراشيا والنبطية وبعلبك وجب جنين ومشغرة وقب الياس والهرمل وعكار والشوف.
… وكنا كلما هدأت فينا الحماسة حرّكتنا تظاهرات الملايين في دمشق وحمص وحماه وحلب واللاذقية ودير الزور، وفي القدس ونابلس والخليل وطولكرم وغزة، وفي عمّان وإربد والكرك، وفي بغداد والموصل والبصرة والنجف والحلة والناصرية وسامراء والرمادي، وفي بنغازي وطرابلس (الغرب) وتونس والجزائر ومدن المغرب الأقصى، وفي الكويت والبحرين واليمن (جنوباً وشمالاً)…
هل كانت كل تلك الملايين من البشر، وفيهم الفلاحون والعمال والطلبة وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسون والعلماء والسوقة وأبناء السبيل، الرجال والنساء والصبايا والفتية الذين كانوا يفتحون وعيهم على حقائق حياتهم،
… هل كنا جميعاً واهمين نخبّ في رمال السراب سعياً إلى حلم مستحيل؟
وأعترف بأنني واحد من الذين أسعدهم حظهم بأن يلتقوا بجمال عبد الناصر في قصر الضيافة بدمشق أيامَ دولة الوحدة، وانني قد شُرفت بمصافحته، وانني قد شربت من ذلك الضياء المنبعث من عينيه، وانني كدت أضيّع الطريق وسط ذلك الحشد الهائل من البشر الذين كانوا قد اتخذوا من الرصيف والشارع وسطوح المنازل المتدرّجة صعوداً حتى اعالي قاسيون، »منازلَ« يبيتون فيها ليكونوا أول من يراه حين يطل عليهم صباحاً.
… أعترف أيضاً بأنني بكيت وأنا في سجن الرمل، في 28 أيلول 1961، حين بلَغَني ممن يأتيني بالطعام إلى زنزانتي الافرادية، ان »الانفصاليين في سوريا« قد اغتالوا حلم الوحدة، بالتواطؤ مع ذلك المأفون الذي كانت المحاباة قد جعلته »القائد العام«، عبد الحكيم عامر، ففضحته الهزيمة السياسية في العجز عن حماية الوحدة (ومن قبلُ عن فهمها)، ثم أجهزت عليه الهزيمة العسكرية في 5 حزيران 1967، ولكن الهزيمة هنا وهناك كلفت الأمة حاضرها ومستقبلها.
أما في 28 أيلول 1970 فقد اتشح هذا الوطن العربي الكبير بالسواد، وغمره إلى جانب الشعور باليتم انه ان لم يتحمل كل إنسان فيه المسؤولية بقدْر طاقته وان لم يثبت وجوده في قرار قيادته المنتخَبة مهما كانت موثوقة ، فإن مستقبله سيكون في يد غيره… وقد كان!
* * *
أعترف، وأصرّ: فلسطين هي عنوان الوحدة ومضمونها.
أعترف، وأصرّ: فلسطين هي المتن في التحرير والتحرر.
فلسطين هي الطريق إلى الغد الأفضل، علماً ومعرفة، كفاية وعدلاً وامتلاء بالكرامة والقدرة على الانجاز.
و28 أيلول موعد فلسطيني أيضاً، وهو زمن الانتفاضة الممتد من 1936 إلى سنة 2000، وإلى الأيام الآتية لتكون ختام عصر الهزيمة.
لقد كان القرن الماضي فلسطينياً بامتياز، وقد هزم الاجتياح الإسرائيلي العرب في مختلف اقطارهم، وعلى اختلاف تطلعاتهم، وها هم اليوم بعدما سحقهم الهرب من المواجهة، أو النقص في الإعداد لها، أو التآمر مع العدو لاستنقاذ الذات، مجموعات متنافرة مقتتلة من الطوائف والمذاهب والاعراق.
لكأنهم عادوا إلى صورة خَلْقهم الأولى… تاركين لمستعبديهم ان يقرروا لهم حياتهم بتفاصيلها الكاملة: من اللباس إلى المأكل، ومن الغناء إلى الديموقراطية، ومن التعليم إلى الدين وتشريعاته بطبعتها الأميركية الإسرائيلية الحديثة.
28 أيلول زمن وليس يوماً أو مجموعة أيام في حياتنا.
وهو زمن نقرر له بدايتنا نحن، أو تتقرر فيه نهايات لأغلى الأماني وأعزها.