هل شاخت الأحزاب السياسية في لبنان، فبات الاحتفال بعيد التأسيس مناسبة اجتماعية أقرب إلى الفولكلور وأداء الواجب منها إلى الوعد بالتجدد والتجديد، هذا مع إرجاء النقاش حول البرنامج وحجم الإنجاز؟!
بل أن المشهد الاحتفالي يتسم، في الغالب الأعم، بنبرة تأبينية، ويتخذ الكلام صيغة »الماضي« أكثر من صيغة »المضارع«، أي أنه يأتي استعادة لتاريخ منصرم أكثر منه استعدادù لصنع الغد،
حتى الشهادات التي قيلت أمس في الكتائب، وقيلت قبل أيام في الحزب الشيوعي، وقيلت أو ستقال في احتفالات أحزاب أخرى كالسوري القومي الاجتماعي أو البعث العربي الاشتراكي أو التقدمي الاشتراكي، تأتي شهادات في ما كان أو استذكارù لصفحات منتقاة يغلب عليها طابع المجاملات وتجنّب الحرج أو الاحراج السياسي.
تصخب الموسيقى التي تشكل الطبول مركزù مهمù فيها، وترتفع أصوات متهدجة وهي تغني كلمات كان لها رنينها المنشي، ذات يوم، بل ربما كان لها وقع الآيات المقدسة، أو النداء المقدس: تستنفر الهمم، وتولد الحماسة وتأخذ المناصرين إلى الحرب ضد الضد، أيا كان الضد، بغير نقاش طويل لا مع الذات ولا مع مصدر الامر.
فإذا ما جاء وقت الخطابة بلغت المفارقة ذروتها: إذ يبدو كلام المسؤول الحزبي وكأنه خارج السياق العام للأحداث، يغلب عليه الطابع التبريري مترافقù ومتزامنù وملفقù مع ادعاءات لا طاقة للحزب بها،
فهو مضطر، في لحظة، لأن يتنصل من التاريخ الذي يتباهى به أو يقدمه كشهادة جدارة لاستحقاقه قيادة الناس إلى المستقبل،
وهو، في لحظة أخرى، يندفع إلى إدانة الظروف والأحوال جميعù إن لم يكن لتبرئة الذات فلطلب الرأفة والرحمة عند الحكم عليه.
ومع الاحترام الكلي لتجارب العمل الحزبي في لبنان، فإن الناس لا يسمعون لا في الاحتفالات، ولا خاصة قبلها، ما ينتظرون سماعه من أجل تجديد التعاقد مع هذه المؤسسات الشعبية التي طالما عقدوا عليها الآمال في الماضي، والتي ما تزال لها مشروعيتها المبدئية في ضمير المواطن، بشرط أن تكون على مستوى ما يتوقعه منها، فضلاً عما تنتدب نفسها للقيام به.
هل سلَّم الحزبيون أيضù بانتهاء زمن الأحزاب والعقائد والعمل الشعبي المنظَّم؟!
هل التهمت السلطة الأحزاب جميعù، أو شوهتها، سواء تلك التي تولّت السلطة فمارستها فعلاً، كليù أو جزئيù، أو تلك التي كانت في الغالب الأعم من تاريخها في موقع المعارضة، مطاردة ومدانة سلفù ويشكل الانتساب إليها تهمة شائنة تمنع صاحبها من دخول ملكوت الادارة وليس مؤسسات السلطة فحسب؟!
من احتفال الشيوعي الذي بالغ في القول بالعلمانية والأممية حتى اتهم بالإلحاد، إلى حزب الكتائب الذي بالغ في كيانيته حتى اتهم بالطائفية، تتكشّف واقعة محزنة: كأن الأحزاب في طريقها للخروج من الحياة السياسية، مخلية الساحة لقوى من طبيعة مختلفة تمامù تفرض أكثر ما تفرض وجود تنظيمات شعبية قوية تفرض عليها الانضباط وتطوير برامجها وطروحاتها بحيث تصير أقل ظلمù للناس وأقل اندفاعù إلى الخارج على حساب الهوية الوطنية والانتماء القومي.
ومن أسف أن الأحزاب »العريقة« لم تجدد نفسها، فكرù وخططù وأساليب عمل، بالقدر الكافي لتستحق ادعاء القدرة على القيادة،
والحزب ليس خمرة تطيب كلما تعتّقت.
الأحزاب كائنات حية معرّضة للشيخوخة والاندثار إذا هي لم تجدّد خلاياها ولم تستبق التحولات، ولم تطوّر فكرها وتمارس الديموقراطية الداخلية بحيث يقودها الأقدر وليس الأقدم والأشجع وليس الأكثر مرونة ومداراة.
وبين أسباب تلاشي الحيوية السياسية في لبنان غياب الأحزاب أو سقوطها في تجاربها المريرة، لا سيما المسلحة منها، والتي يريد اللبنانيون أن ينسوها، بأي ثمن، ولهذا فهم يحملون الخطايا جميعù الحزبيين والأحزاب، ثم يعودون القهقرى في اتجاه البيك والزعيم أو المرجع الروحي للطائفة أو المذهب.
إن غياب الأحزاب شهادة ضد لبنان وادعاءاته الفخمة (وطن الحريات، الديموقراطية، حقوق الإنسان، بوتقة انصهار الأقليات).
وغياب الأحزاب السياسية دليل على خلل عضوي في أساسيات »العيش المشترك«… ومن ثم في مرتكزات النظام المدعى أنه جمهوري ديموقراطي برلماني إلخ.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان