مع الأذان، فجر أمس، طوى رفعت النمر قلبه على وجعه، وغادر بلا وداع..
يمّم وجهه نحو فلسطين ورحل وعيناه ترفان حول مثوى آبائه وأجداده في جبل النار نابلس، وحول أولى القبلتين وثالث الحرمين وكنيسة القيامة ودرب الآلام في القدس، وبيت لحم والمغارة، والناصرة التي أعطت لعيسى بن مريم كنيته الناصري ، وحول مدينة خليل الله ورام الله واللد والرملة، حول حيفا ويافا وعكا، حول غزة بني هاشم، ورفح وبئر السبع، حول الغور والنهر الذي مشى على صفحته وحول المخيمات التي تناثرت في جنباتها مِزق من فلسطين،
أخذته الغصة، وعجز عن البكاء: ليست هي فلسطينه. أما إسرائيل فأمرها كعدو وطني وقومي معروف… وأما أهله، الفلسطينيون، فماذا يفعلون بفلسطين، بيومها وبغدها وبحلم الدولة التي يكاد يستحيل كابوساً، وبحلم التحرير الذي يكاد يستحيل وهماً، وبحق العيش في بؤس اللجوء وفي ظل الاحتلال، وهو عيش بائس لكن الخطأ السياسي يكاد أن يحوّله جحيماً؟!
استذكر للحظة حال لبنان الذي استقبله بقلب مفتوح فأعطاه تعب العمر والولاء والحب: أين هذا اللبنان المشروخ بخطر الفتنة، والمهدد بالفقر المدقع وذل الديون وضغوط الخارج، والمحاصر بتخلي الأشقاء، من لبنان المزدهر بأهله العرب، وقد رأوا فيه نوارتهم، والذي افترضه دار عبور فإذا هو يستحيل دار بقاء أبدي!
حاول أن يصرف فكره عن العراق الذي أغرقه الاحتلال الأميركي بدمه، فما استطاع، وأحس بأن نار الفتنة التي تحرق أرض الرافدين تصله في فراش لحظاته الأخيرة..
حاول استعادة صورة مصر التي فيها تعلم، وناصرها قد وعده بإنجاز التحرير، ثم سقط دون وعده، فاستعصت عليه، وأغمض عينيه عن صورة واقعها الراهن..
حاول أن يقوم بزيارة وجدانية أخيرة إلى دمشق فأعجزه خياله عن تمثلها، واكتفى بأن يستذكر قبر صلاح الدين فيها..
وفي لحظة اتخذ قراره بالرحيل احتجاجاً واعتراضاً ورفضاً لهذا الواقع العربي الذي طالما ناضل من أجل تغييره، وها هو يغادر والعرب يتنكّرون لعروبتهم ويهربون منها وكأنها عورة أو تهمة شنيعة!
? ? ?
عاش رفعت النمر عمره كله داخل البديهيات البسيطة تماماً: فلسطين أرض عربية، ورثها الآباء عن الأجداد والأجداد عن أجداد الأجداد. وهي أرض الرسالات وهم حملتها. هي الأرض المباركة وهم زيتونها وبرتقالها والحرس. هي الدين والدنيا. هي مجد الحياة وعزة الاستشهاد. بها يكون العرب أمة، ومن دونها يصيرون هباءً منثوراً ومشاعات بلا أصحاب يأخذها الوافد غازياً أو المسيطر تحكماً،
وبين البديهيات: أن الصهاينة قد جاءوا من أربع رياح الأرض، بعدما استعدوا طويلاً طويلاً، وأعدوا المال والسلاح والتأييد الدولي، وأفادوا من الغفلة العربية ومن استخفاف الفلسطينيين بمن حسبوهم بعض شركائهم في الوطن… وهكذا أمكن لمن كان يسميهم أقطاب الحكم في دنيا العرب شذاذ الآفاق أن يستولوا على فلسطين وأن يهزموا الجميع شر هزيمة، مرة، مرتين، ثلاثا، حتى خلصت لهم فلسطين ودانت دنيا العرب لقوتهم الجبارة.
وكثيراً ما استعصت التطورات على فهم هذا المناضل العريق الذي دخل السجن لأول مرة وهو يافع، وشارك في الثورة الكبرى 1936 وهو فتى، والذي ذهب إلى الدراسة في مصر لكي يعود إلى إكمال دوره في التحرير، فانتهى لاجئاً..
وعلى امتداد أربعين عاماً من الصداقة لم يحدثني أبو رامي إلا في واحد من موضوعين جوهرهما واحد: فلسطين العروبة، العروبة فلسطين.
عائلته شعب فلسطين، وقضيته العروبة. لذا كان بديهياً أن يكون بين طلائع القوميين العرب عندما صارت حركة يقودها الدكتور جورج حبش ومعه نخبة من العائدين ..
وعندما تمركست الحركة، وتحولت إلى الجبهة الشعبية أحس رفعت النمر بشيء من الخذلان: أين العروبة؟
وبرغم اعتراضاته الجدية على سلوك ياسر عرفات ومناوراته المتعددة، فقد ظل يحترم فيه الرمز حتى يومه الأخير..
ولكنه في أيامه الأخيرة تجرع المرارة حتى الثمالة:
لقد شاهد، بأم العين، فلسطينياً يطلق النار على فلسطيني، وقد نسي كلاهما أنه تحت الاحتلال الإسرائيلي… وسمع الهتافات الشنيعة والمهينة للكرامة الوطنية فضلاً عن التنصل من العروبة.
شاهد الهزيمة العظمى غولاً رهيباً يلتهم ما تبقى من القضية، والرايات المقدسة قد تحولت إلى مزق، يمشي فوقها المقتتلون في خدمة المحتل..
.. فقرر أن يرحل وهكذا جعل فلسطين قبلته ومضى عائداً إلى نابلس التي لم تغادره على امتداد دهر الغياب.
رحم الله هذا العربي الصافي، الفلسطيني المطهر بالنار المقدسة لجبل النار الذي سيظل ينتظر المحررين باسم العروبة وليس من خارجها.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان