الحمد لله أن الرؤساء والوزراء والكبراء والوجهاء ومحترفي الخطابة والوعظ، على مدار الساعة، سينشغلون على مدى شهر، أو يزيد قليلاً، بانتخابات البلديات والمخاتير، أي بمحاولة تعطيل اللعبة الديموقراطية على مستوى البلدة والقرية والدسكرة، بعدما أتموا إنجاز التعطيل على المستوى الوطني.
والحمد لله، لأنهم سيتوقفون عن مضغ الكلام الممجوج والمكرر والمعاد، والذي يقع كله خارج السياسة، حول العرض الإسرائيلي المشروط بتنفيذ القرار 425… أو أن هذا ما نتمناه.
لقد ارتكب الجميع من الأخطاء السياسية ما يكفي في سياق »الهجوم« بالقرار 425 ثم في سياق »الدفاع« لدرء »مخاطره« بعدما استطاعت إسرائيل أن تسحبه من أيدينا ثم ترتد به علينا، ونحن »يا غافل لك الله«!
… ولكننا بدلاً من الاعتراف بالخطأ، والمبادرة إلى تصحيح منهج التعاطي مع هذا الحدث الخطير، واستبدال الخطاب السياسي الركيك في عشوائيته، بادرنا إلى الإشادة بعبقرية نتنياهو السياسية »فاتهمناه« بأنه »يناور« وبأن عرضه »مفخخ«، وبأنه يحاول خلخلة الوضع في لبنان، وبأنه يريد إحداث وقيعة بين لبنان وسوريا إلخ.
لعن الله نتنياهو، لقد باغتنا، أو لعله قد غشنا، أو لربما استغفلنا، إذ بعدما صنّفناه ومن موقعه على رأس حكومة التطرف وكأنه رجل حرب تأخذه شراسته إلى حدود الوحشية، فاجأنا بأنه تكتيكي ماكر، وبأنه سياسي مجرب، إضافة الى كونه إعلاميا من الدرجة الأولى!
ثم إنه صعقنا بسرعة حركته، إذ ما كدنا نستفيق الى خطورة »لعبته الجهنمية« حتى كان قد سوَّق لها فباعها من العالم كله: أوفد وزير حربه إلى فرنسا المؤتمنة على سرنا، ثم إلى واشنطن المؤتمنة على مستقبلنا، وجال بنفسه على العديد من دول أوروبا التي كنا نراهن على كسبها أو كسب موقع فيها نستطيع منه مخاطبة الإدارة الأميركية »المحتلة«.
أما ثالثة الأثافي فكانت حين جاءنا أمين عام الأمم المتحدة كوفي أنان، والذي افترضناه »واحداً منا« فإذا هو »محايد وبارد« و»معجب بنفسه« و»مغرور بنجاحه« في مهمته العراقية، وحريص على أن يلقى قبولاً من الدولة الأقوى في المنطقة، إسرائيل، ومن الحاكم الذي يكاد الأقوى على المستوى الكوني، بنيامين نتنياهو.
قاتل الله المصادفات السيئة: لقد وصل أنان ونحن في غمرة حرب الزواج المدني، والحكم منشق على نفسه، والمؤسسة الدينية موحدة على رغم انقساماتها العميقة، والشارع مشغول بانحيازات الخلفاء الراشدين لهذا أو ذاك من فرق كرة القدم وبين صراع الأديان والحضارات اللبنانية حول كرة السلة..
ومن دون الرغبة في نكء الجراح فلا بد من تسجيل بعض الملاحظات على المسلك »السابق؟« في التعاطي مع القرار 425، وهي ملاحظات نتمنى ان تكون قد استدركتها الخطة الجديدة لاستعادة القرار ومضمونه الاصلي ومعه مطلب الانسحاب الاسرائيلي كمدخل لتحرير ارضنا المحتلة.
أولى الملاحظات: ان القرار 425، بنصه وروحه، بظروف استصداره وباسلوب استصداره، وبتوقيته خاصة، آذار 1978، كان محصلة لتوازنات سياسية معينة، ضغطت فأنتجته، ولكن تنفيذه ظل معلقاً لمدة عشرين عاماً لافتقاره الى الدعم السياسي الفعال والمؤهل لالزام اسرائيل بالتنفيذ.
كانت مسيرة كمب ديفيد قد بدأت، وكان الاتحاد السوفياتي على وشك تجرع هزيمة سياسية جديدة مع اصدقائه العرب، وكان الاميركيون حريصين على تحصين الانعطافة الخطرة التي قادها السادات، وهكذا سلموا باعطاء السوفيات والعرب »جائزة ترضية« في لبنان، بعدما كان الاجتياح الاسرائيلي قد ادى الاهم من اغراضه السياسية على الارض.
اي ان ظروف استصدار القرار، سياسياً، كانت افضل بكثير من ظروف المطالبة بتنفيذه، وهذا ما جعله على امتداد العشرين سنة الماضية »مطلباً« بل »امنية« عزيزة المنال، مثله مثل سائر القرارات الصادرة عن مجلس الامن متصلة بالصراع العربي الاسرائيلي والتي اسقطت من الذاكرة الدولية وكاد ينساها حتى اصحابها. امنية.. ولا قوة مؤهلة لتحقيقها!
ثاني الملاحظات: ان اعادة اكتشاف القرار 425 وتظهيره مجدداً وطرحه للتداول اليومي وبالحاح لافت بعدم واقعيته، كل ذلك قد تم من خارج السياسة، بالمعنى الاصلي، وان كان يدخل ضمن التكتكات« بالمفهوم اللبناني كله،
لم تكن الحملة معدة للتصدير، بل موجهة للاستهلاك المحلي فقط، وموظفة في الصراعات الجهوية والمكايدات الرئاسية والمزايدات الطائفية او الذهبية.
وكان اخطر ما في الحملة انها جعلت القرار 425 اهم من المقاومة (التي لولاها لم يتذكره احد لا داخل اسرائيل ولا خارجها)، بل ربما اهم من الارض ذاتها.
على امتداد سنتين جعلنا القرار 425 نشيداً وطنياً ثانياً والعلامة الفارقة في انحيازاتنا وولاءاتنا السياسية، من كان معه فهو الامين المؤتمن، ومن تخفظ على طريقة العرض او حاول مناقشة ما بعد الخطوة الاولى، اي ما بعد جعل القرار شعاراً، كدنا نتهمه في وعيه السياسي، او في اخلاصه لقضية التحرير، او شككنا في اخلاصه لتلازم المسارين!
ومؤدى ما فعلناه اننا اخرجنا القرار والناس من السياسة.
نسينا او تناسينا اواغفلنا حقيقة ان القرار لا ينفذ نفسه بنفسه، ولا تنفذه رغبتنا وحدها، وان لا بد من الضغط سياسياً وبكل القوى المتاحة، لفرضه على جدول اعمال الحكم في اسرائيل، سواء أكان »متطرفاً« ام »ناقص التطرف«.
لم نستذكره فنعده الى دائرة الجدل الا بعدما انطفأ آخر شعاع امل في مؤتمر مدريد،
ولم نجلس لنفكر بهدوء، ولندرس على أرض الواقع الامكانات المتاحة، بفضل المقاومة أساسا، سواء داخل إسرائيل بكل قواها السياسية، او على المستوى العربي المثخن بالخلافات والمقاطعات، او على المستوى الدولي الذي بات له محور او قطب هيمنة اوحد.
وفي كل ما صدر عن الحكم في لبنان فلقد كان من الصعب العثور على دراسة او مطالعة سياسية قانونية رصينة يمكن اعتمادها كمنطلق لخطة عمل، وقاعدة لحركة سياسية جادة وهادئة تأخذ في الاعتبار الظروف العربية والدولية، وتخاطب المصالح والعقول بحساب دقيق وبارد، آخذة في اعتبارها الاصوات المتعالية داخل إسرائيل ذاتها مطالبة بالانسحاب ومتسائلة عن هوية »آخر القتلى« في الجحيم اللبناني.
ثالث الملاحظات: وهي متصلة بسابقتيها، ومؤداها اننا في الكثير مما قلناه وروجناه قد اسأنا كثيرا الى صورة المقاومة، من دون ان نكسب احدا لقضيتنا.
تحدث رسميونا عن ضمانات لأمن إسرائيل،
وبالغ بعض مسؤولينا في قوة الجيش اللبناني ليس من باب التنويه بهذه المؤسسة الوطنية بل في مجال تطمين الإسرائيليين الى قدرتنا على تأمين سلامتهم… أي الى تصفية او تفكيك »حزب الله« او الى »احالة المقاومين الى التقاعد« في العمل السياسي!
ووصل بعض آخر الى حد التعهد بعدم اطلاق رصاصة واحدة، بعد الانسحاب، ملوحاً بما يشبه معاهدة سلام، بينما ابواب الصراع العربي الإسرائيلي ما تزال مفتوحة على جهنم، بفعل استمرار تل ابيب في سياسة التوسع الاستيطاني وتنصل حكومة نتنياهو من الاتفاقات السابقة مع الفلسطينيين، والضغط على السلطة المتهالكة لعرفات من أجل التوقيع على التصفية النهائية للقضية.
رابع الملاحظات وأخطرها: اننا لم نضع في حسابنا، ولو من باب التحوط، احتمال ان »تناور« إسرائيل فتعلن استعدادها للاعتراف بالقرار 425، لأي سبب كان يتصل بها وليس بنا، وبحساباتها العربية والدولية، وبخطتها المعلنة لاستفراد كل طرف عربي على حدة ومحاولة توظيفه ضد الآخر.
نتيجة ذلك كله انتهينا الى وضع كاريكاتوري: نقف جميعاً، صباح كل يوم، امام الميكروفونات لنردد ببغائياً فعل الايمان بالأمم المتحدة ومجلس الأمن والرأي العام العالمي، ونصدح بنشيد القرار 425، ونخطب ونخطب ونخطب ونتبارى في رفع شعارات لا يمكن ترجمتها ولا يمكن لأي عقل »محلي« ان يقبلها فكيف بالاجنبي؟!
لقد خضنا معركة القرار المجيد خارج السياسة.
فلما جاءت السياسة (من إسرائيل!!) انهارت خطوط هجومنا المرتجل والذي لا يستند الى الواقع وارتبكنا فتهاوت خطوط دفاعنا امام أول هجمة »سياسية« إسرائيلية،
ان اتهاماتنا جميعا لإسرائيل تتركز على انها تتعامل مع القرار سياسياً، وانها تشن علينا »بقرارنا« حرباً سياسية!
أي اننا حتى في هجومنا حصرنا السياسة بالعدو، متلطين مجدداً وراء الخطابة!
اننا نتهم نتنياهو بأنه »يناور« (وهذا من صميم السياسة)،
ونتهمه بأنه يحاول استمالة الرأي العام العالمي، ولو بالخداع،
ونتهمه بأنه يرغب في احداث فتنة في لبنان، وضرب العلاقات اللبنانية السورية،
ونتهمه بأنه يحاول الايقاع بسوريا،
أي اننا نتهمه بأنه ينفذ ألف باء مصالح إسرائيل كعدو، وينفذها سياسياً..
وفي بعض الخطب كدنا نعاتبه على مكره وخبثه ودهائه وتفخيخه العروض السياسية!
ما نتمناه، مجدداً، ان يكون الرؤساء والوزراء والكبراء والوجهاء والخبراء قد انهمكوا في الانتخابات البلدية، فتلك هي أعلى درجات »السياسة« التي يتقنون،
.. وان تكون الخطة التي تم وضعها يوم الخميس الماضي في دمشق قد تجنبت اخطاء الماضي، وأن تكون قد توغلت في »السياسة« بحيث لا نظل نخوض الحرب بغير سلاح ونفتح للعدو ثغرات مهلكة ونعززه بالذخيرة القاتلة كلما أحرجته المقاومة (داخليا) وأربكه الصمود (عربيا)..
ونتمنى ان يكون سفراء الدول الكبرى قد سمعوا من وزير الخارجية، أمس، خطاباً سياسياً جديداً، في مستوى الحرب التي تشنها ضدنا إسرائيل، بسلاحنا وفي عقر دارنا.. أي في الأمم المتحدة التي ضجرت من سماع ظلاماتنا وخطاباتنا المفخمة العبارات لطمس عجزنا عن المواجهة!
نتمنى ان نكون قد عدنا، أخيراً، الى السياسة.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان