في الذكرى الأولى “للنكسة” التي تقال تخفيفاً من اثقال كلمة “الهزيمة” تنادينا للتلاقي في ضيافة النحات والرسام المبدع آدم حنين وشقيقه نسيم هنري، في “الحرانية” التي كانت ارضا زراعية فقيرة لنقص المياه فيها، تقع في سفح تلال الاهرامات وابو الهول.
كان مجموعنا حوالي الاربعين، بيننا صحافيون مميزون كمصطفى الحسيني ومصطفى نبيل ومكرم محمد احمد ومحفوظ الانصاري وآخرين كثر، ونخبة من الرسامين والنحاتين ومبدعي الكاريكاتور يتقدمهم بهجت عثمان الشهير بـ”بهاجيجو” وصلاح جاهين الشاعر رسما والرسام شعراً وجورج البهجوري ورجائي واحمد حجازي وسائر من فتح لهم احمد بهاء الدين ابواب مجلة “صباح الخير” لينشأ فيها ويتخرج منها جيل كامل من رسامي الكاريكاتور.
كان الهدف أن نحاسب انفسنا وقيادة الامة بشخص جمال عبد الناصر عن مسؤولية الهزيمة: اين قصّرنا، وأين صمتنا حين كان يتوجب الكلام، ولماذا اندفعنا بعيداً في تأليه “الزعيم” حتى جعلناه خارج دائرة المحاسبة..
انبرى كل منا يدافع عن نفسه ويحاول تبرير قصوره او تقصيره او غفلته وانسياقنا مع الحماسة والسكوت عن الغلط الفادح (من النماذج) الفاقعة بقاء المشير عبد الحكيم عامر في قيادة القوات المسلحة بعد سقوط دولة الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة) امام عينيه وهو غافل عن المجموعة المحدودة من العسكريين الذين نظموا اغتيال حلم الأمة، في دمشق ثم اتوا لاعتقاله.. قبل أن يسمحوا له بالسفر، بعد تهديد جمال عبد الناصر بضربهم من الجو والبحر وارسال فرقة من المغاوير إلى الشاطئ السوري، قرب اللاذقية.
جلدنا انفسنا كفاية، وسكر بعضنا حتى البكاء، وقررنا أن نغير نهجنا في الكتابة والرسم، وان نقول الحقائق كما هي، مهما بلغت مرارتها، وان نحاسب القيادة على اخطائها، برغم ايماننا بإخلاصها الوطني وصدقها في مواجهة العدو الاسرائيلي (ومن معه) مهما كلف الأمر.. وان نتمسك بشعاراتنا المقدسة: الوحدة، وضرورة تحرير فلسطين ومواجهة العدو الصهيوني والدول الداعمة له بالقيادة الاميركية..
نام بعضنا تعباً، وتناوم بعضنا ضجراً، وبكى العاطفيون منا.. وهب بهاجيجو يرقص بالعصاية لتغيير الجو، وقرأ علينا صلاح جاهين بعض رباعياته التي تغني الواحدة منها عن كتاب، وغنى حلمي التوني شيئا من الطرب القديم، واستعدنا سيد درويش والحانه العذبة وبكائياته التحريضية بعنوان “قوم يا مصري”..
مع الغروب، تفرق جمعنا، وعدنا إلى ما يشغلنا.. وكانت “الهزيمة” تتربص بنا حيثما توجهنا..
قال بهاجيجو، محاولاً التخفيف عني: اليوم هو الخميس، وافضل خاتمة لهذا اليوم الحزين أن نذهب إلى “الحرافيش” الذين يتلاقون هذه الليلة عند الكاتب الساخر محمد عفيفي في منزله بمنطقة الهرم، وهو غير بعيد من هنا، ملتفين حول المبدع نجيب محفوظ في جلستهم الاسبوعية..
وهكذا كان، ذهبنا إلى محمد عفيفي، والتقينا كاتبنا نجيب محفوظ، وكانت تجربتي الأولى مع “الحرافيش” التي ستمتد مع الساهرين نياماً لزمن طويل هو أجمل سنوات العمر!