خرجت لأتمشى في حديقة ألفت مساراتها والتواءاتها. رحلة المشي لا تتجاوز الدقائق العشر من كل يوم مشمس، أي من كل يوم تقريبا. لم أشك يوما من خطأ في إدارة الحديقة وإن لم يتوقف شكي في تراجع صلابة كاحلي الأيسر. المنظر الخارجي للكاحل لا غبار عليه ولكن الثقة المتبادلة بيننا صارت مع الزمن أقل وفاء وعافية. أمشي كالعادة في طرق مستقيمة وما أن أصل إلى نهايتها حتى أتوقف لثواني أستعين فيها بالأمل والنية الطيبة على دعم قدرة كاحلي الأيسر على الاستدارة 180 درجة لنخطو معا أول خطوة في امتداد آخر للطريق الممهد لمشينا. خطوناها يوميا بسلام لسنوات صعب أن أحصي عددها.
***
اليوم، وعند استدارة مألوفة في نهاية امتداد للممشى، لم أتوقف ليستعد كاحلي، أو توقفت ولم ينتبه الكاحل، أو توقفت وانتبه الكاحل ولكن القدر كان في الانتظار عند الاستدارة ليفاجئ الجميع بما أعد لهذا اليوم.
***
أطلت ابنتي الأكبر على الحديقة من على البعد لتراني مفترشا جانبا من أرض الممشى عند نهاية أحد امتداداته. ظهورها في هذا الوقت المبكر من الصباح أضفى عليه صفة المفاجأة. مفاجأتان في الحديقة، مفاجأة أن تراني ابنتي من على البعد وأنا ملقى على الأرض، ومفاجأة أن أرى ابنتي في هذا الوقت من الصباح في شكل زيارة غير متوقعة. رأيتها تحبس كلمات جاءت لتعلنها ورأتني وأنا أشير لحارس الحديقة المار في مسار بعيد كي يأتي لمساعدتها في صلب عودي حتى أقف مستندا إلى كاحل أخشى ألا يعمل بالكفاءة المعتادة.
***
همست في أذني وهي ترفعني مع “الجنايني” لأقف، “يا أبي، فقدنا فجر اليوم كبيرا في العائلة، جئت لأطمئن إلى أنك سوف تتحمل الصدمة فإذا بي أجدك مفترشا أرض الممشى وممتثلا لألم نفسي فظيع يطل من عينيك ومن قبضة يدك الممسكة بيدي تستعين بها للصعود وقوفا على ساقين؛ أعلنت إحداهما لك ولي عن ضعفها”.
***
ما أحلى شموخ النفس وعزتها عند من كانوا ومن هم في مثل هذه المرحلة من عمري. أعمم الحكم الذي حكمت به على نفسي لأنني أراه حقًا لكثيرين غيري، في العائلة الممتدة وفي دائرة الأصدقاء وفي دوائر الزمالات المتعددة التي انتميت إليها عبر عديد المهن والمهام التي اندمجت فيها أو انسلخت عنها. سقطت ولا عين رأتني أسقط. تجسدت الواقعة في مشهد واحد اللاعبون فيه كثر؛ أنا وأحلى ذكريات العمر في واحدة من أروع ما عشت من لحظات بين أروع من عاشوها معي، وقد تصدروا المشهد ومدته دقائق ولعلها ثوان لا أكثر.
ففي مثل تلك الأيام قبل أربعين عامًا أو ما يزيد، كان يجمعنا مركز الدراسات الذي تشرفت بتأسيسه مستعينا بزملاء من أفاضل أهل العلم والمعرفة. كانت التحديات ضخمة والإرادات أيضا. شهدت ندواتنا اجتماع عقول سجلت أمام صغار الباحثين حقيقة مراحل لم نعشها نحن أصحاب أواسط العمر وما تحته. أذكر تحديدا النقاشات المثيرة التي كانت تجري بين قادة ماركسيين أسسوا لمرحلة ترويض الشيوعية المصرية، وأقول المصرية فألوانها ومعظم أطيافها كانت مصرية الأصل والتطور، كان هناك الإنسان الرائع خلقا وسيرة ووضوحا وعلما واسمه محمد سيد أحمد، وكان هناك الصديق والسياسي لطفي الخولي وكان هناك الزعيم والمعلم محمود أمين العالم وآخرين عديدين أثاروا نقاشات سجلناها ونشرناها. كانت تجربة ممتعة لا يعادلها إلا النقاشات التي دارت في هذا المركز بين القادة العروبيين وغيرهم من السياسيين. كانت نقاشات حية مفتوحة وصريحة وخالية من كل قيد.
***
أذكر أنه في مثل هذه الأيام وإلى جانب مائدة النقاش الأساسية وقفت في كل عام شجرة عيد الميلاد مضاءة بالليل كما بالنهار، وجلست إلى مكاتب متناثرة فتيات، هن من الخريجات الجدد، الساعيات لاقتحام مجتمعات العمل. كم أحببت فيهن تلك الفرحة الحلوة التي كانت دائما في انتظار الزميل والضيف وابن الجيران الحريص كل عيد على المرور لتهنئتنا بحلول العيد. إن نسيت فلن أنسى الدكتورة نيفين مسعد الرئيسة غير المعينة لجميع ورش العمل والنقاش الدائرة في المركز ولا الآنسة فيبي يونان السكرتيرة المعينة لجميع الأعمال الفنية والأشغال الإدارية وشئون المطبخ، وأنشطه الشاب الفيومي سامح في المطبخ كما في خارجه. ثلاثتهم في حركة لا تتوقف وفرحة لا تنطفئ طوال أيام العيد، وكل الأيام السابقة على العيد واللاحقة به، ومن حولهم ومن قبلهم ومن بعدهم أذكر همة ونضج سامية ونهاد وضحكة نرمين وحكمة نرمين الأخرى وهذه فقدناها للقدر، أذكر أيضا طموحات الرائعة نيرفانا وتعليقات الرحيمة مريم الأولى وخفة ظل مريم الثانية، أذكر أيضا إبداعات بنات ثلاثية لوقا المتنوعة المواهب.
هذه الثروة من البشر، مضاف إليها هديل ونانيس وسيف وسلام وآخرون ربما غيبتهم غمامة العمر المتقدم فلم أعد أذكر أسماءهم، هي التي أثمرت فكرة إصدار مجلة شهرية تعني بعروض الكتب. عشنا العمل نحلم. خرجنا بهؤلاء البشر نعقد مؤتمرات في دول عربية أخرى، نجند في هذه الرحلات أصدقاء وزملاء جدد، ونحقق حلمًا بعد حلم.
***
أكتب وقد اقترب اليوم من عصريته، أكتب وفي الصدر قلب طفل يهلل بالنبضات فرحا وبهجة بما تحقق من أحلام على مضي سنوات عمر مديد.
أكتب وفي مكان خارج الصدر خزانة ذكريات مشحونة بتفاصيل ساعات وأيام وسنوات من السعادة والرضا، خزانة لم يبخل حارسها بزيادة جرعاتها الحنونة والدافئة كلما أصابني جزع أو ألم بي ضيق.
أكتب وفي مكان ثالث شيء ما يتألم لفراق مصطفى، كبير من كبار العائلة، انتزعه القدر هذا الصباح مخلفا فراغا هائلا.
أكتب وفي مكان رابع من يسار هذا الجسد المنكمش قليلا تقع عضلات لم تنفك تعلن بين اللحظة والأخرى أنها موجوعة نتيجة ارتطامها بالأرض خلال تمشية هذا الصباح.
أكتب وفي الحلق غصة مكتومة، هل حقا أننا اكتشفنا اليوم أننا صرنا معرضين لحملة ضغوط أمريكية وتهديدات وابتزازات صهيونية غير مسبوقة لنوقع اتفاقا لا يحظى بالقبول العام ولا يليق بالمصلحة الوطنية؟.
***
إنه حقا ليوم مليء بالمفاجآت والمتناقضات.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

