هنا، أراك في كلّ مكان، وجهك يشبه وجوه الناس كلّهم، وأمانيك هي أمانيهم. أراك بين الناس، أهلك، وأكبر في أعين من ألتقيهم حين يعرفون إني بعضٌ منك، وإنك كلّي، أحمل اسمك بفخر وخوف من ألّا أفيه حقّه.
هنا، حيث تلمع العيون حين يُذكر اسمك. هنا، في البلدة التي تلمع عيناك حين يأتي ذكرها.
هنا، أراك في تعرجات الأرض السخيّة بالرغم من تهميشها، حتّى باتت تبدو قاحلة، هي العطشى لليسير من المطر والريّ، والكثير من الحبّ، لكي تطرح ثمارها وتنشر عطرها وتعطي الحياة ألوانها.
أنت لم تَكبُر هنا، كنت تجول مع جدي في أنحاء “الوطن” طفلا ثم شابا استقر في العاصمة وانطلق منها “إلى كلّ أرض عربية”. لكنّ يوميات السنة التي عشتها هنا، سكنت أعماقك وطبعتها، تفاصيل تَحْكيها دوما وتكتبها: وجه جدّك الحنون والقاسي في آن، البيلسانة المستقرة في صدر الدار، الفقر المستوطن في الأزقة كلّها، فارضا على الناس، ناسك، ما يأكلونه، وما يرتدونه لردّ البرد وحماية الأقدام الصغيرة من حجارة الزواريب الموحلة. هنا وجوه الكادحين التي تشبه وجهك. والحب الكثير الذي يلّف ذلك كلّه.
هنا تعلّمتَ أن تكونَ يدُكَ مبسوطة أبدا، وأيقنتَ أنه يتعين هدم الأبراج العالية المحصنة، الواهية، التي يستوطنها منذ الأزل، أزلام يتحكّمون بهذه البلاد، ممعنين في ظلم ناسها، وإفقارهم، وإهمالهم عمدا، إلّا في ما ندر. هنا تعلّمتَ أن حبَ الناسِ وحبَ الأرضِ هو الغاية وهو الوسيلة.
هنا، لا تبدو فلسطين، “أوّل أسمائنا وآخرها”، بعيدة.
هنا، يعلم الجميع أن العدّو تحالف مع حكّام بلادنا الممتدة من المحيط إلى الخليج وقرروا إزالةَ غزّة وناسِها عن الوجود، ووأَدَ فلسطين برّمتها. تحالفوا مع العدوّ حتّى سقطت سوريّا، وتفتت. قتلوا السيّد، وطوّقوا المقاومة وخوّنوها وصغّروها حتى باتت “شيعية” بعدما كانت قوة تحرير تتجاوز قدراتها وطموحها حدود لبنان.
وفيما دويّ حربِ الإبادة يتفجّرُ زعيقَ صواريخٍ مهولةٍ تدمّر غزّة هاشم وتنهش أجساد ناسها، وفيما يعلو بكاء الأطفال المجوّعين وصريخهم ليطال سماء، يلّفُ صمتٌ مطبقُ بقية الأراضي العربية، باستثناء زعيق حفلات غنائية ترفيهية تُنظّم بلا خجل.
الآن وهنا، في وسط القهر والعجز والتخلّي، نفتقد صوتك لكي يصوّب “الطريق”، لكي يخترق “ليل الهزيمة”.
نفتقد صوتك، وكلماتك مازالت حيّة كما لو كانت قد كتبت اليوم”يضرب العدو، فتتسع الأرض ولا تضيق، ويصلب عود الأرض فلا تنحني ولا تركع، وكيف تركع وهي مهوى السجود ودمغة الإيمان على الجباه المرفوعة.”
هنا يعرفون، مثلك، أن “الأرض وردة محناة بدم الشهيد الذي أتى ولن يموت”.
نحن هنا الآن، حيث تحب ومع من تحب.
فصديق عمرك، ابن بلدة الخيام الملتصة بفلسطين، يطلق اسمك على مركز الخدمات الصحية الأولية الواقع في ساحة شمسطار. مثلك هو، اختار الحب لمحاربة الظلم والحرمان المتعمّد، فأسس “مؤسسة عامل” في مسعى لتعويض الإهمال ومكافحة المهانة. كامل مهنّا فعل، كالعادة، ما كان يتعين على كثيرين فعله.
لن أشكر كامل مهنا، فما بينكما، أنت وهو، أكبر من أن يُختصر بكلمة شكر. والخطوة التي أقدم عليها أملاها نُبْلُهُ، والنبيلُ يعطي من دون أن ينتظر مقابلا.
وكأنك كنت تكتب عن كامل مهنا حين قلت إن “الحب هو الأقوى. الحب يحصن الحياة فيحميها. الحب ينبهنا الى روعة الحياة التي تعطينا بغير طلب وبغير منة. علينا ان نحب الحياة لتكون لنا الحياة. والحب هو الناس. الحياة بالناس. الحياة في الناس. الحياة مع الناس.”
قبل عامين ويوم، أودعنا جسدك الواهن حضن الأرض التي حييت بزخم حبّها. أما روحُك، وفكرُك، وقلبُك وكلماتُك، فحاضرة كلها هنا، معنا وبينا وفي وجدان كل منّا.
قبل عامين ويوم، أودعنا جسدَك الواهن حضنَ الأرض، ولكن روحك وكما قال الشاعر محمد الفيتوري، لم تسكن قبرا:
سأرقد في كل شبر من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق حقول بلادي
فمثلي أنا ليس يسكن قبرا
دربك خضرا يا بابا