في مدة قياسية بقصرها استهلك هذا النظام العجيب أخطر مؤسساته:
فخلال أربعة شهور من اختتام الانتخابات بتتويج المجلس النيابي الجديد تمّ استهلاك هذا المجلس الوليد، إذ بدا وكأن لا دور له في مجمل الأحداث والتطورات الخطيرة التي شهدتها الشهور القليلة الماضية (الجنوب، مؤتمر أصدقاء لبنان، فضيحة المالية الطوابع ثم التصفيات الجسدية التي ذهبت بأساس الموضوع وتركت الشك محوماً فوق الرؤوس الكبيرة..).
وخلال ثلاثة شهور من قيام الحكومة الجديدة أو القديمة المجدَّدة تلاشت ملامح التجديد وانتفى أي أثر للزخم لتترسخ صورة »حكومة تصريف الأعمال« تحت اللافتة الذهبية للاستقرار المحروس جيداً بقوة الحراب.
وعبر الصراعات التقليدية داخل الترويكا وعلى أطرافها، وفي قلب مجلس الوزراء الذي يضمر فجأة فينشق »المجلس« عن »الوزراء« والعكس بالعكس، تمّ استهلاك الكثير من رصيد الأجهزة الأمنية (رأفت سليمان، فريد موصللي، حادثة طبرجا وعمليات الدهم والاعتقالات الكيفية والمبالغة في توجيه الاتهامات والربط العشوائي بين الاعتداءات على أمن الدولة وبين منشورات المعارضة السياسية المراهقة ثم المبالغة في التراجع عن الادعاءات بوجود خطة تربط الشغب الداخلي باجتياح إسرائيلي حدَّدت »البصارة« موعده في شباط المقبل…)،
.. وللتخفيف عن الأجهزة الأمنية، أو للتغطية على بعض تصرفاتها العشوائية أو المرتجلة، توسع المعنيون في استخدام اسم القضاء حتى كادوا يلحقون به الأذى، خصوصاً وقد عُهد إليه بترميم سمعة السلطة برموزها السياسية والأمنية معاً، فبات ظهور رجال النيابة العامة على التلفزيون أشبه بحلقات من برنامج ثابت أو مسلسل بوليسي يومي، لا تتوازى نتائجه الفعلية على الأرض مع غزارة الاستخدام التمويهي والدعائي.
ثم جاءت الضربة القاضية ممثلة بالصدام الدراماتيكي بين »السلطة السياسية« بشخص رئيس مجلس الوزراء، ومعه وزير الدفاع، وبين قيادة الجيش حول موضوع ترقيات الضباط، وهو »صدام« لا يقبله عقل أو منطق، ولا يمكن أن يكون مصدر انتصار لأي من أطرافه، بل أن »الدولة« كلها هي التي ستدفع ثمنه وليس فقط »الحكم« أو »السلطة« أو بعض أجهزتها السياسية أو العسكرية أو الأمنية… واستطراداً القضائية.
طبعاً، يمكن أن يضاف إلى هذا كله بعض المشكلات التفصيلية من نوع التصادم المقصود أو المفتعل بين السلطة السياسية وبين المؤسسة الدينية، التي تبدّت فجأة واحدة موحدة حين افترضت أن حديث القضاء المدني في الأحوال الشخصية يمس دورها »السياسي«، وكانت قبل ذلك بقليل قد تسلقت مسألة الدهم والاعتقالات لممارسة »حقها« كمرجعية سياسية من دون أن تلقى اعتراضاً جدياً، بل لعل العكس قد حصل إذ تراجعت السلطة السياسية أمامها وكادت تعترف لها بحق النقض!
هل هذه ملامح دولة قيد الإنشاء، أم أنها علامات على هزال المشروع وعلى التصدع الخطير في الأساس الذي يقال إنه اعتمد لبناء »الدولة« مع نهايات القرن العشرين؟!
سيما إذا ما رُبط هذا كله بحفلات »الزجل« السياسي المفتوحة داخل السلطة وخارجها حول »الجهاز الإداري« الذي يصوّر في لحظات وكأنه منبع الفساد وبؤرته المثلى، وينزّه في لحظات أخرى عن أي عطب أو خلل أو سوء ويقدم في صورة الشهيد الأول للفساد السياسي المستشري داخل السلطة وخارجها؟!
إلى أين من هنا؟
ومَن يوقف هذا التداعي المخيف في مقوّمات »النظام«، واستطراداً »دولته«، ونظامها البرلماني الديموقراطي وصولاً إلى الحكم والسلطة، ناهيك بأشتات المعارضات التي لم تنفعها كل هذه الانهيارات لبناء منطق موحد، فضلاً عن »برنامج الإنقاذ« العتيد،
.. ولعل ما حصل هو العكس تماماً إذ كانت السلطة تستمد بعض مبررات وجودها وضرورة الحرص عليها وعلى أجهزتها، ولو ضعيفة، خوفاً من »المجهول« الذي تروّج له المعارضات المتضاربة في ما بينها والمسدودة الأفق بمجموعها والتي لا تجد ما تطمئن فيها، وتبشر الناس به وهي تحرّضهم على القائمين بالأمر..
إلى أين من هنا؟!
هل ثمة فائض من الوقت للتفكير بمثل هذا السؤال المزعج؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان