ذهبت بيروت إلى الانتخابات النيابية، أمس، تقدم رِجلاً وتؤخر أخرى، مترددة، متهيبة هذا الامتحان الصعب. لكأنه نصف ذهاب إلى نصف اقتراع.
وإنه لأمر لافت ألا يستطيع جو الاحتدام الإعلامي أن يثير حماسة الناخبين وأن »يستدرجهم« إلى أقلام الاقتراع، برغم »الاغراءات« و»التسهيلات« الكثيرة التي كانت متاحة، ربما أكثر من الاحتياج، وربما أكثر مما يجوز.
اللافت أكثر ألا تستطيع أسماء »مرجعيات« و»قيادات سياسية« بعضها يتوهج في السلطة، وبعضها الآخر يكتسب لمعانه من المعارضة، متدرجاً في الاعتراض من »أعدل الاعتدال« إلى »ذروة التطرف«، وفق التصنيف »الرسمي«، أن تدفع بأهالي بيروت إلى صناديق الاقتراع لكي يقولوا رأيهم في هؤلاء الذين يتصدون لموقع القيادة، عبر لوائحهم أو منفردين.
إن مشهد المواجهة، بكل ما حفل به، كان يفترض أن يؤدي إلى نتيجة مختلفة،
فعلى خشبة المسرح الانتخابي كان يحتشد: رفيق الحريري، بكل وهجه الشخصي وموقعه الممتاز في السلطة، وسليم الحص بكل التقدير الفائق الذي يحمله له الناس في بيروت كما في سائر لبنان، ونجاح واكيم الصوت الصارخ في البرية والذي يرى فيه الكثيرون معبراً عن ضميرهم أو همومهم ونصيرهم في مواجهة الصعب من ظروف حياتهم، وتمام سلام الذي اختار النزول منفرداً مفترضاً أنه المؤهل ليكون حبة العقد في ائتلاف »أمر واقع« عبر الاقتراع، وهو ائتلاف استحال قيامه قبل المعركة أو حتى خلالها عبر »اتفاق جنتلمان« بين لوائح غير مكتملة.
.. وعلى الخشبة نفسها، وفي مواقع مختلفة، تحتشد مجموعة من »الكتل« ذات الطابع العقائدي أو الحزبي أو الجهوي (تحاشياً لاستخدام تعبير نافر مثل »العرقي«، في الإشارة إلى الناخبين الأرمن): فهناك الكتلة الكبرى ممثلة في »الأرمن« ثم »جمعية المشاريع الخيرية الأحباش«، و»حزب الله«، و»الجماعة الإسلامية«، وجمهور حركة »أمل«، وجمهور وليد جنبلاط والحزب التقدمي الاشتراكي، إضافة إلى القوميين السوريين والكتائبيين الخ..
كل هذا الرهط من الرجالات والتجمعات والأحزاب لم يستطع أن »يغري« أكثر من ثلاثين في المائة من الناخبين بأن ينخرطوا في »الصراع«، كلاً من موقعه أو موقفه بالتأييد أو بالاعتراض، في حين بقي سبعون في المائة بعيدين بالاستنكاف أو بقلة الهمة أو باليأس من جدوى التصويت!
هل لأنها المدينة الكبرى التي تكاد تختزل لبنان، العاصمة التي تتسع للجميع، من مختلف الأمزجة والأهواء والتيارات والمصالح، يتجاورون فيها من دون أن يؤدي هذا التجاور بالضرورة إلى وحدة في الموقف السياسي أو إلى حدة في التعارض تعطي للتنافس معنى يتجاوز الحماسة لهذا المرشح أو ذاك؟!
هل لأن المدينة العاصمة معطلة عن الفعل السياسي منذ الاطمئنان إلى انتهاء زمن الحرب الأهلية والولوج إلى السلم الأهلي؟!
هل لأن الحرب أنهكتها بالتمزيق الجغرافي والنفسي فباتت بحاجة إلى فترة طويلة لكي يتعارف فيتآلف أهلها من جديد، ويتوغلوا في الانقسام الفكري والسياسي والمصلحي، دون خوف من تجدد الحرب ومن منطلقات طائفية ومذهبية تدمر من تبقى منهم وما بقي من مشاعرهم وأحلامهم، وكذلك ما تبقى من طيف عاصمتهم ومن حلم الوطن؟!
أم لأن الناس يستشعرون في أعماقهم أن لا مكان لهم في مشروع يندفع بقوة زخمه الذاتي، المحصّن محلياً وعربياً وخارجياً، ولا قيمة لرأيهم في تأييده أو في الاعتراض عليه؟!
ليست المسألة من يفوز غداً بتمثيل في بيروت في المجلس النيابي.
المسألة أخطر بكثير من هذا »التفصيل«، ويمكن تلخيصها بالسؤال المدوي: أين بيروت؟! أين العاصمة؟ واستطراداً أين الناس من المشروع ومن دولته بمؤسساته المختلفة بما في ذلك المجلس النيابي؟!
وهي مسألة يصغر أمامها أطراف الصراع بقدر عجزهم عن استيعابها وإثبات أهليّتهم في ابتداع حلول جدية لها.
ولا يحق لأي من الفائزين أن يباهي غداً بأنه قد ألحق الهزيمة بخصمه،
بل سيظل مشروعاً التساؤل عن معنى صمت أكثرية بيروت وامتناعهم عن الاقتراع لهؤلاء جميعاً.
فالحقيقة الكبرى أن الأكثرية المطلقة من أهالي بيروت »خارج الموضوع«.
أين الموضوع إذن؟!
وهل الموضوع أن الانتخابات تجري خارج السياسة؟!
ومتى تجيء السياسة، وكيف، ومن أين، وبمن؟!
ومؤسف أن تكون الانتخابات قد طرحت علينا المزيد من الأسئلة المحرجة بدل أن تكون مناسبة لتوفير الكثير من الإجابات الضائعة..
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان