نشرت في جريدة “السفير” ضمن “هوامش” بتاريخ 14 حزيران 2012
لكأنه وُلد ليكون ما كانه فعلاً على امتداد واحد وخمسين عاماً: والداً وراعياً وحاضناً، بالرغبة والقرار، للأيتام جميعاً.
ربما لهذا لا يبدو العنوان الذي اختاره محمد بركات لكتابه “إرادة بلا هوادة” تفخيماً أو تعظيماً بقدر ما هو توصيف للرجل الذي ابتدع لدار الأيتام، كمؤسسة خدمة إنسانية جليلة، مجموعة من الشعارات التي كسرت الشعور بالإشفاق الذي يلازم ـ عادة ـ الحديث عن الأيتام.
وبالتأكيد فإنه لم يكن في بال الحاج صالح بركات، التاجر المقترب بتهيّب من الصناعة، أن ينصرف نجله الذي تخصص في علم الإدارة في ألمانيا، ثم نال دبلوم الدراسات العليا في الاجتماع والتاريخ من جامعة القديس يوسف في بيروت، إلى مجال رعاية الأيتام… وهي لم تكن، وليست مهنة في أي حال.
كذلك، لم تكن هذه المؤسسة في بال الشاب الممتلئ حماسة والذي وجد في جمال عبد الناصر بطل الأمة فاندفع إلى الالتزام السياسي في حركة القوميين العرب.
ولقد تربّع محمد بركات فوق إدارة دار الأيتام لمدة نصف قرن أو يزيد قليلاً، وانتقل بها من حال من البؤس وشح التبرعات والمساعدات إلى مؤسسة ذات سمعة عربية ودولية، اكتسبتها من خلال تطويرها منهجاً وأسلوب رعاية وابتداعاً لِما يُسقط الإشفاق عن المنتمين إليها من الأيتام، ليحل محله الإعجاب بما وصلوا إليه وما يمكن أن يحققوه ضماناً لمستقبلهم.
وحين تولى محمد بركات إدارة دار الأيتام طالب براتبين في الشهر: “الأول مقابل عملي والثاني تعويض عمّا سيلحق بسمعتي من أذى”.. ذلك أن معظم الذين تولوا دور الأيتام والأوقاف والكثير من الجمعيات الخيرية قد لاكت الألسن سمعتهم وتناولتهم الشائعات المغرضة في ذمتهم.
يروي محمد بركات في جملة ما يرويه، حكاية اللقيط الذي ظلت دعواه عالقة في المحاكم لمدة 17 عاماً، حتى نجح في أن ينتزع له الحكم بحقه في الجنسية.
يمكن أن نطلق على محمد بركات لقب “النقّاش”، فهو قد نقش مجموعة من الشعارات والملصقات التي كادت “تزين” اليتم، من نوع: “دار الأيتام للأحلام.. لا للآلام” و”الخير عالم من الأخيار”. وكانت هذه الشعارات مع رسومها الجميلة تملأ شوارع بيروت عشية الأعياد. وبالمقابل فقد أنتج بالتعاون مع بعض الشعراء والملحنين، لعل أبرزهم أحمد قعبور، عدداً من الأغنيات والاسكتشات التي كان الأيتام يقدمونها في الحفل السنوي، فتزيد من ثقتهم بأنفسهم، وتحرك المشاعر الإنسانية وإرادة الخير التي تحمي دار الأيتام وتساعد على تطويرها لتقدم خدمة أفضل.
ولقد كتب محمد بركات كثيراً من المقالات والموضوعات الفكرية والسياسية.
ويروي محمد بركات واقع دار الأيتام حين تولى زمامها: فقد كانت خالية من المزروعات والأزهار، ليس فيها إلا أشجار الكزورينا، فرزع ما يبهج، بعدما حصل على ثلاثمئة ليرة من عبد البديع سربيه. لكن الأطفال فرحوا بها إلى حد اقتلاعها ليحتفظ كل منهم ببعضها، فزرعها مرة أخرى حتى اعتاد الأطفال على جمال منظر المكان الذي يسكنون فيه فصاروا يرعونها معه.
كذلك فهو قد نظّم 45 ندوة ومؤتمراً وطنياً وعربياً في الرعاية والعمل التطوعي، وكتب عشرات الأبحاث… “إرادة بلا هوادة” عنوان حصيلة جهود نصف قرن في العمل الاجتماعي العام وفي تحويل دار الأيتام إلى مؤسسة تساهم في بناء هؤلاء الذين حرمتهم أيامهم من آبائهم والأمهات، وتفتح أمامهم باباً من نور إلى المستقبل.
ونحن في انتظار السيرة الكاملة لمحمد بركات التي يقول إنها ستكون أشبه بالملحمة.


