ما بين ظهيرة ذلك السبت البهي، في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 1973، وبين ظهيرة أمس الأحد التي استقبلت الذكرى الثالثة والعشرين لتلك القفزة العربية المجيدة الى قلب التاريخ، يبدو وكأن لبنان قد سقط سهواً، أو انه قد تبدل بحيث يكاد الآن ينكر نفسه!
قبل ثلاث وعشرين سنة، وفي افياء الوهج المقدس لقرار المواجهة مع »العدو« الذي لا عدو غيره، تهاوت الحساسيات الطائفية وبارت تجارة المذهبيات، واندفع لبنان الى حيث يجب: الى خط الدفاع الأول.
كان رئيس جمهوريته آنذاك مسيحياً مارونياً، ورئيس المجلس النيابي مسلماً شيعياً، ورئيس الحكومة مسلماً سنياً، ونائبه من طائفة الروم الارثوذكس الخ… لكن ذلك كله شكل عنصر قوة اضافية للاندفاعة الوطنية العارمة الى مساندة الاشقاء المحاربين وتعزيز قدراتهم بما ملكت يمين لبنان.
كان نظام لبنان السياسي موضع خلاف، ولم يكن حكمه نموذجياً في ايمانه بالعروبة او بالديموقراطية، وكانت قواه السياسية والشعبية تعاني من انقسامات »عقائدية« حادة توزعها معسكرات بين اقصى الشرق واقصى الغرب: لكن الحرب، وبقرار عربي، جعلت الجميع يتحملون مسؤولياتهم تهيباً للتضحيات الجسام، وتقديراً لدم الشهادة الذي سال غزيراً من اجل تحرير الارادة والتقدم في اتجاه الغد الأفضل.
كانوا قلة من اللبنانيين، مسؤولين ومواطنين، اولئك الذين يعرفون الرئيس السوري حافظ الأسد معرفة شخصية،
وكان عدد أقل من بينهم يعرف بعض رفاقه ومعاونيه الكبار عن قرب، أو يقيم معهم علاقات حميمة.
كان الموقف هو الأساس، لذا فقد تبدى نبيلاً باصالته، وكان يستجيب للمصالح القومية العليا كما للعواطف الطبيعية، ولذا فقد جاء خالياً من الادعاء والتبجح وفوق شبهة الزلفى أو النفاق.
ومع الوعي الكامل بفداحة ما تعرض له لبنان، دولة وشعبا، خلال دهر الحرب/ الحروب الأهلية/ العربية/ الدولية، التي ضربت مناعته الوطنية وهدت بنيته الاقتصادية وشطبت دوره السياسي المتميز، فإن كثيراً مما يشهده لبنان ويعيشه اللبنانيون الآن يبدو أقرب إلى التمهيد لحرب أهلية جديدة منه إلى تداعيات أو إفرازات أو نتائج حربه »القديمة«.
ربما في لبنان وحده يمكن وببساطة مذهلة أن تتحول »القضية« إلى مشروع فتنة!
للمثال: تفرض المسألة الاجتماعية ذاتها فرضاً، وهي الجانب الأكثر حدة لحال الركود الاقتصادي، ولتعثر الإصلاح الإداري، ولتجاوز طموحات الإعمار حدود القدرات،
بدلاً من التنادي إلى حوار وطني شجاع وصريح، والتكاتف الشامل بين السلطة وشعبها الذي يزداد فقراً، تنفتح هوة عميقة بين الطرفين المهددين بالأسوأ، وتسود لغة التحدي والنكاية والقرارات المرتجلة من الطرفين،
فجأة، ومن دون سابق إنذار، تنزلق »القضية« إلى مهاوي الفتنة، فيبرز منطق يقسم الفقراء طوائف والأغنياء مذاهب، ويتم تعطيل أي مشروع جدي لتسوية مقبولة بضرورة »مراعاة التوازن«، في حقوق الطوائف…
تدريجياً يضع رجال الدين والمؤسسات الطائفية أيديهم على المسألة برمتها، ويتعذر الحل، أو يرجأ فيصير مستحيلاً، بينما تتجذر عوامل الفتنة التي كانت مصطنعة ومفتعلة فتغدو الآن هاجساً واحتمالاً جدياً لا بد من العمل على منع انفجاره!
للمثال أيضاً: تطرح ضرورة تنظيم الإعلام المرئي والمسموع،
من حيث المبدأ: لا يجادل أحد في المبدأ. لكن التفاصيل سرعان ما توقظ جميع الشياطين، فإذا بالطوائف تنهض للمطالبة »بحقوقها«، باسم الحرية والديموقراطية واقتحام العصر!
ولأن قرار السلطة مرتجل ومغرض ومطعون في نزاهته، إذ لا يمكن طمس حقيقة أن أطرافها قد توزعوا »المحطات«، القائمة منها أو التي ستقوم ذات يوم، فإن مواجهة الدخول الفجّ للمؤسسات الطائفية والمذهبية على الخط تصبح صعبة وربما متعذرة، وتتزايد احتمالات التراجع أمامها وتلبية مطالبها »المحقة« خوفاً من الفتنة وذلك الذي أيقظها.
وإنه لأمر محزن أن يغرق اللبنانيون في مثل هذه المتاهات المنهكة، وأن ينشغلوا بها عما يدبّر للبنان ولسوريا وللفلسطينيين وسائر العرب في ظل حكم التطرف الاسرائيلي الذي جاءهم بلباس الحرب بينما هم كانوا يتوقعون واهمين أنهم قاب قوسين أو أدنى من السلام المستحيل.
بماذا تفيد برقيات التأييد لابطال حرب تشرين في ذكراها الثالثة والعشرين، اذا ما تُركت الاوضاع الداخلية المأزومة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً واعلامياً، تتفاقم لتصبح عبئاً على اللبنانيين، بداية، ثم على سوريا التي تتولى قيادتها مسؤولية تاريخية استثنائية في مواجهة العدو الاسرائيلي، خصوصاً وقد اعلن نتنياهو المهووس بالحرب والمسكون بالتعصب قراره باختيار لبنان منطلقاً لهجومه الجديد عبر مشروعه الفخ: »لبنان اولا«؟!
قد لا يفيد الكلام في لحظة »فراغ السلطة« التي تشهد غياباً مؤقتاً وقصيراً للمجلس النيابي والحكومة،
لكن برنامج الحكم المقبل يجب ان يجيء محكوماً بضرورة العلاج الجذري لهذه الاوضاع المأزومة، وعلى قاعدة خطة محددة ومعلنة ومطروحة للنقاش يشارك فيه اللبنانيون جميعاً.
ومع ان الامل بتغيير جدي في منطق السلطة يظل محدوداً، الا ان ذلك هو المخرج الوحيد لاعادة لبنان الى حيث يجب ان يكون: قوة بذاته، وقوة اسناد لاخوانه في المواجهة القاسية المفروضة والتي تظلل مقدماتها المنطقة برمتها الان.
لا بد من علاج حاسم لاسباب الازمات التي سرعان ما تتحول الى فتن، وتصرف اللبنانيين عن »القضية« لتضعهم في مواجهة سلطتهم المرتبكة بينما تنتظرهم جبهة المواجهة الاصيلة مع العدو الذي لا عدو غيره.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان