الإنسان إلى حد كبير صدى التاريخ؛ يُولد في بيئة طبيعية واجتماعية، تختلف وتائر التطوّر في كل منهما. لكن كثير من سمات سلوكه هي انعكاس تلك البيئة في شخصه. أول ذلك، مثلاً، اللغة، الاسم، الدين، الخ…
لا تُختصر المسألة في سؤال: “الإنسانُ مخيّرٌ أم مسيّرٌ”؟ لكن حرية التصرف ليست فقط أن الواحد منا يختار من عدة مسارات أو احتمالات تفرضها عليه البيئة، وبذلك تكون الحرية والضرورة متداخلتين. ولم يخطئ من قال “الحرية وعي الضرورة”. ربما لم يكن الأمر بهذه البساطة، لكن التبسيط أداة لجعل الفهم في متناول اليد. وما من شك في أن كثيراً من عوامل الثقافة لها علاقة بالجينات البيولوجية التي تُحدّد موروثات السلوك الإنساني. وهذا بحث أصبح من مسلمات العلوم الإنسانية الحديثة. فالإنسان ليس إما مخيراً أو مسيراً، بل عناصر التخيير والتسيير مختلطة ببعضها، بحيث يصعب التمييز بينها. ما هو دافع للحرية الآن يمكن أن يكون دافعاً للضرورة غداً. المهم أن نعي أن الواحد يعرف نفسه من خلال ما يرث وما يتراكم عبر التاريخ؛ بالتاريخ تعرف نفسك إلى حد كبير. فنحن لا ندرس التاريخ كي نعتبر، أو لكي نتعظ، أو لكي نعرف البيئة الخارجية وحسب، بل كي ندرك ما في بواطننا.
ولا بدّ من الاعتراف أن الشخصية الفردية والجماعية استبطان لمؤثرات خارجية ترد إلى الذات من البيئة الثقافية والطبيعية بالتأكيد. وكل منا ماكينة أو روبوت جيني. فما يتحرك ويعمل من الجينات هو ما يضمن لكل منا، أفراداً وجماعات، البقاء. والاستمرار في ذلك أخذ للداروينية بالاعتبار.
نحن، أفراداً وجماعات، من مولدات التاريخ، ومن خلاله نعرف أنفسنا. إذ نحن إلا كائنات تاريخية يولدها الماضي ويهيؤها، كي تتجاوز نفسها. وهي تكتسب حريتها بالتجاوز الذي ينقلها من الماضي عبر الحاضر إلى المستقبل. الأمم الأكثر تقدماً هي التي يعنيها المستقبل أكثر من الماضي. وما يولد المستقبل من عناصر الماضي هو الضمير مركز الإرادة أو جوهرها. والبحث عن الضمير هو سعي الإرادة، ليس فقط من أجل أن تتفلت من قيود الماضي، بل أيضاً من أجل إعادة صياغة الماضي في مستقبل هو التعبير عن الحرية. الجماعات التي لا تفعل ذلك تكون مغلقة، وتدور حول نفسها، وتفقد الحرية، وتكبّل الإرادة، ويكون الضمير فيها لا نابعاً من الذات بل صدى لما ينعكس في الذات من أوامر وتكليفات خارجية، باسم الشريعة أو غيرها، تفرّغ الضمير من موجبات الإرادة، وتحوّل الذات من موجبات وإبداعات الضمير إلى مجال الضرورة. الإنسان، وكل واحد منا، فرداً كان أو جماعة، هو فضاء احتمالات. ولا يؤدي الدين السياسي إلا إلى تغليب الضرورات الخارجية أو تكبيل الضمير وتفريغ الإرادة من حرية أو حريات محتملة.
تعبير فضاء الاحتمالات يستخدم كثيراً في الرياضات الحديثة، التي ما كان لها أن توجد دون تطوّر العلوم الحديثة، وبزوغ شمس الحرية مع الحداثة؛ وهذه بدورها تعيد إلى الضمير (أو الإرادة) محتوى فقدت أساسه مع التكليفات الخارجية. ومن بينها “التكليف الشرعي” الذي لا يعدو كونه قيداً على الحرية. فما من حرية إلا ما ينبع مع الذات. ومن هنا كان سعينا إلى التمييز بين التحرر من القيود الخارجية، من بينها ضرورات الامبريالية، وصولاً إلى الاستقلال الوطني، وبين الحرية التي لا توجد ولا ينبغي أن توجد إلا كبدعة من إبداعات الضمير الجواني. يتعلق التحرر الوطني بالتحرر من القيود الخارجية، وتتعلق الحرية بالخلاص من القيود الجوانية. فالتمييز بين التحرر والحرية أمر واجب من أجل بناء مجتمع حديث. الدين السياسي يريدنا أن نبقى أسرى الماضي. نعيش فيه، بينما التحرر منه يفسح المجال للحرية التي لا مكان لها إلا في جوانية الضمير. وصراعنا ضد الدين السياسي هو صراع من أجل الحرية. فبالتاريخ نعرف أنفسنا. وفيه أساس الحرية، التي لا بدّ أن تؤدي إلى تجاوز الماضي وافتراقه والخروج من التكليف إلى فضاء الحرية ومجال الاحتمالات. يساعدنا علم الجينات البيولوجية في ذلك. إذ هو ما يتيح لنا حرية الاختيار للخروج من موجبات الضرورة إلى حرية الوعي. وعندما قال هيغل بوعي الضرورة لم يكن علم الوراثة قد ظهر. ولا ضير أن تدل الفلسفة على طريق المستقبل. نحن أبناء التاريخ، بالأحرى أبناء الماضي. لكن السعي للخروج منه واجب الحرية وطريق المستقبل.
ولا يتشكّل الرأي العام من عناصر وموجبات التحرر الوطني بل موجبات الحرية النابعة من ضمير فرد. ليس للرأي العام وجود في مجتمعات أسست على الدين السياسي. فما تعتقده الجماعة هو ما تمليه القيادة بعودة إلى استبداد من نوع آخر. يتجاوز في قيوده الاستبداد السياسي الذي تمارسه أنظمة الحكم. على كل حال، الإيمان شيء والعقيدة الدينية شيء آخر. الإيمان يحرر والعقيدة الدينية تكبّل. والدين السياسي لا يهتم بالإيمان بل بطقوس العقيدة. فهو يهمل الإيمان كما يهمل الحرية النابعة من الضمير. كما التمييز بين التحرر والحرية، يجدر التمييز بين الإيمان والعقيدة. الإيمان فيه صفاء الروح. فيكون تعبيراً عن الوجدان. والعقيدة فيها كل ما يناقض الإيمان، وربما إلغاؤه أو نفيه.
فضاء الاحتمالات الذي نهتدي إليه بعلم الوراثة ينكره أصحاب الاستبداد والدين السياسي. فهم في سعي دائم للقضاء على الجوانية، وعلى الضمير، وعلى كون الإنسان ذاتاً فاعلة أو كونه وكيل نفسه لا وكيلاً عما هو خارجي، وإرادة ملغاة لصالح سلطة. لا ترى في الإنسان إلا أداة للعقيدة.
لماذا التاريخ؟ سؤال يجاب عليه أن به نعرف أنفسنا وبهذه المعرفة نستطيع أن نتجاوز. نتجاوز الماضي. وأن نخرج من المعلوم إلى المجهول، فتكون المغامرة الإنسانية سعياً للحرية.
الحرية من مبدأ التكليف الشرعي. فهما على طرفي نقيض. من هنا كان شعار تطبيق الشريعة خطراً على الدين في المجتمعات الإسلامية. هو خطر على الإسلام ذاته، إذ يجرده من الحرية، ويتركه أشلاء يولغ فيهها أتباع الاستبداد. السعي ضد مبدأ تطبيق الشريعة هو سعي لتخليص الدين مما يمكن أن يقضي عليه. ولا حفاظ على الدين إلا في حصره في فضاء الإيمان وإبعاده عن الفضاء العام. والقول بذلك أمر خطير في مجتمعات ساد فيه الوعي الديني.
نحن أبناء الماضي. نصنع التاريخ عندما نتجاوز الماضي، ولا يكون التجاوز إلا بالمعرفة؛ معرفة الماضي على حقيقته، والتجاوز للماضي في آن معاً. أدعياء الثورة الإسلامية في إيران خرجوا من ماضٍ إلى ماضٍ أكثر إيهاما وإيغالاً في الاستبداد والاستعداد لكل ما يهين الكرامة البشرية، والذي تحوّل إلى مجرد أداة يتطلّب وجودها المزيد للخضوع لما هو خارج الذات والجوانية. ذاتٌ لا يبقى لها إلا الخضوع لما هو خارجها. وما يفعل هذا النظام غير العودة إلى ماض موهوم يكون فيه العبور من معلوم إلى معلوم، لا من معلوم إلى مجهول. وهم إذ يدّعون تصدير ما عندهم، فهم يرمون إلى الآخرين أوهاماً عن الماضي، وتاريخاً لا يقود إلا إلى التجهيل. معرفة الذات ليست من بضاعتهم. حوّلوا الدين إلى سلعة والبشر إلى سوق الخضوع. المتاجرة بعبيد من نوع آخر. وعبيد ليس لله بل لمن ينوب عنه وبعطي نفسه حق الكلام باسمه. لذلك الخوف من أن تفلت من أيديهم أدواتهم في بلدهم وفي البلدان الأخرى، التي ما اعتبروا يوماً أن لها أسباب قومية، يرى أصحابها الدين في الإيمان لا في الطقوس. ولم يدركوا أنهم نسخة عن الإخوان المسلمين الذين رفضتهم مجتمعاتنا، لأنهم أيضاً أفرغوا الدين من الإيمان. وحاولوا تمديد مجال الدين إلى مجالات أخرى لم يرد التمدد إليها أصلاً.
الذات المفقودة يتعيّن استردادها من مجالات أقحمت فيها دون إرادة من أصحابها. ربما أفلح أتباع الدين السياسي في علوم مادية كالفيزياء والكيمياء، لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في علوم الذات، وفي العلوم الإنسانية عامة.
عندما نعرف ذاتنا فإننا ننقذها من براثن الماضي، ونضعها على طريق المستقبل. والتاريخ هو في المستقبل وصنعه، والخروج من ماض غرق تحت أثقال الأوهام. فلا بدّ من الخروج من دياجير الأوهام إلى عالم المعرفة. وهذه أولها التأكيد على الذات وعلى جوانية النفس، وكسر القيود التي تكبلها.
ما أبعد التاريخ عن أوهام الماضي. والمراد بحث يدمر أوهام الماضي، ويعيد الذات إلى انفتاح التاريخ، والسعي إلى المجهول والإقلاع عن حصر المعرفة في استنباط معلوم من معلوم، حيث نصلب التاريخ على خشبة الجهل وإعلاء شأن القداسة. في المقدس تعالٍ على الواقع، وفي المعرفة عودة إليه. وهنا دور التاريخ الذي له دور البحث عن الحقيقة وسلخ الأوهام.
نحن البشر أبناء التاريخ بماضيه ومستقبله. وهو حركة دائمة لا وقوفاً عند جملة من التصورات والتخيلات التي تتآكل فيها الحقيقة. عالم الإسلام الراهن تحتل فيه العقيدة الدينية كل زاوية ذهنية. بحيث لم يبق من الدنيا شيء إلا وهو مكرس لغيرها.
لا بدّ من الوعي التاريخي من أجل معرفة الذات الفردية والجماعية. تزوير التاريخ أو بتره، أو مهما كان الخوف منه، للاقتصار على سردية جماعة دون أخرى، والاستعاضة بالتاريخ الجزئي عن التاريخ الكلي، كل ذلك يؤدي إلى الجهل الذاتي أو ما يسمى تجهيل الذات. التاريخ علم وليس وجهة نظر. هو حلقات متصلة متى حذفت الواحدة منها، أو أهملت المسارات التي لا تتناسب مع رؤيتك، ينهار التاريخ وتتقوّض أسس المعرفة العلمية، ويصير أصحاب الرؤية تابعين أو خاضعين لمن يقبض على الرؤية ويدير المسار، سواء جاء من الخارج أو الداخل. نحن لا نختار من نريد أن نكون. فذلك قرّره التاريخ. لكننا نختار من لا نريد أن نكون، وسيكون نوعاً من الاستعمار عندما يفرض هذا الأخير نفسه علينا بواسطة الوعي الزائف الذي يزرعه في رؤوسنا. ولدينا الكثير من هذه الحالات.
يتصالح الواحد منا مع ذاته ومع مجتمعه عندما يستند إلى رؤية تاريخية، واقعية، كلية، شاملة، متصلة، وموضوعية. وكل فريق يتخذ من الرؤية التاريخية البتراء كي يدعي لنفسه تاريخاً خاصاً في مواجهة الآخرين. المجتمع يرتكب حماقة تجاه نفسه والآخرين. وما أكثر الحمقى في بلادنا الذين يخوضون من مئة عام تجارب سيئة خاطئة، أفاد منها العدو بسبب الجهل بالواقع وبموازين القوى، وبالمعرفة التاريخية. لن تجدينا المفاضلة بين أبطالنا القدماء زمن الفتوحات، ناهيك عن القتال بما يشبه أساليبهم، بل ينقذنا الاحتفاظ بهم في الذاكرة التاريخية، وإبداع معرفة جديدة، واستمرار الجواب على السؤال الذي طرحه آلان تورين لكتابه “هل نستطيع العيش سوية”؟
ما اخترنا الأقطار التي ولدنا فيها، وهي بمثابة اللغة التي نولد للتحدث بها والتواصل بواسطتها. وما علينا إلا التقيّد بهذه كما بتلك. فالقطر الذي تتشكّل منه الدولة ربما كان مصطنعاً، أوجد بالغلبة أو رسم حدوده الاستعمار. كُتب علينا أن يكون هو الوطن، وأن تكون دولته هي الملاذ الأول والأخير. ومن يتبع دولة أخرى يكون كمن باع نفسه ووضعها في غير طبيعتها. الطبيعي الوحيد أن تكون لنا دولة (دون التلاعب بالألفاظ واستخدام تعابير مثل الوطن والأمة). وأن تكون الدولة قدرنا، وأن نقرر العيش سوية في إطارها. وبذلك نصير أفراداً مواطنين وشركاء. وما لا يلزمنا أو ما يتوجب علينا نبذه هو لقطاء الايديولوجيا. وما أصابنا يحتم علينا أن نقسو بالنقد تجاه أنفسنا ومجتمعنا. العقل النقدي هو جوهر الوعي التاريخي. دونه نكون متلقين لا فاعلين، ورعايا دون مواطنين. والحرية تبدأ من هناك. ولا لزوم لتحويل ما هو واضح إلى ما هو مغلق بغلالات ايديولوجية دينية أو علمانية، تغبّش الرؤية وتمنع الوصول إلى الصحيح منها. وقد كررنا ذلك، وان اختلفت التعابير بين الفينة والأخرى، وإن كان الحامل يسارياً تارة ودينياً يمينياً تارة أخرى، وأدى ذلك إلى فقدان الحرية، وتجهيل الذات، وتحفيظ الضمير، واغتيال الوجدان. فصرنا مثل الروبوتات التي تتبع ولا تبادر، نقلد ولا نبدع. وهكذا كان انجرارنا إلى مزيد من الهزائم، التي ما زال بعضنا يعترف بها. نستطيع أن نكون أفضل مما نحن عليه لكننا لا نفعل، وذلك بسبب وعي تاريخي زائف لأنه مبتور.
علينا أن نتصالح مع تاريخنا، وذلك لا يكون بنفيه أو الاقتصار على جزء منه، بل بالرؤية الكلية التي تأخذه بمجمله دون أن تجزئه إلى ما هو مقبول وما هو غير مقبول، وأن نقبله كله، ونجعله ذاكرة، ونتجاوزه في آن معاً.
هويتنا هي كل التاريخ لا جزءاً منه، فهو لا يتجزّأ، وإلا تشلّع وتجزأ مجتمعنا. التاريخ كل لا يتجزّأ كما هي اللغة التي لا يجوز إنكار بعضها والاكتفاء بالبعض الآخر.