قبل ثلاثة أسابيع من استشهاده… والتاريخ يعيد نفسه: في 4/5/1987 أعلن الرئيس رشيد كرامي استقالته من الحكومة لفتح الطريق أمام إنقاذ البلد، وقال في خطوة مفاجئة: بتّ مقتنعاً بأن كل هذا الذي يجري يصب ضد مصلحة المواطنين ولبنان .
وقال في تصريحه: لذلك فقد عشنا هذه الأيام، وخصوصاً في مهرجان أول أيار، وما استمعنا إليه من آراء وخطب، كلها زادت اليقين عند الكثيرين بأن هذا الذي يجري إذا كان مخططاً له، فإنما أبعاده خطيرة، وإن كان عفوياً فنتائجه أخطر وأبعد على مصلحة هذا الشعب ومصير هذا البلد، فكلنا عندما يجمع تلك الآراء والطروحات التي استمعنا إليها، يجد أنه بين مشرّق ومغرّب لا يمكن الالتقاء على أي حل.
وقد أكدت ذلك المحاولة الأخيرة في قصر منصور التي لم تعمر طويلاً، فكان نتيجتها التعليق والإرجاء.
وهذا أضعف التفسيرات، فكيف يمكن أن نصبر على ما يجري ونشاهد، خاصة نتيجة التشنجات والمزايدات وزلات اللسان التي بين الواحد والآخر، استمعنا إلى من يطالب بالحياد، وبالقوات الدولية، وبإجلاء الغرباء والقوى جميعاً عن ساحة لبنان، وبين آخر يطالب بأن تكون هناك القوى ملتحمة ومجتمعة كي يصار إلى وضع الإدارة الذاتية وما شابه.
وكلها طروحات لا يمكن الوقوف عندها دون التخوف على وحدة هذا البلد، مؤسسات وشعبا وأرضا…
وكل هذا لا يساهم في إيجاد الحلول المبحوث فيها. استقالة في وجه الحكم والحلفاء… وقال: أما وأنني اليوم بتّ مقتنعاً بأن كل هذا الذي يجري يصب ضد مصلحة المواطنين ولبنان عموماً، فقد أصبح واجباً عليّ أن أتخذ الموقف الذي أراه يخدم مصلحة هذا البلد وأهله ويفتح الطريق أمام إنقاذه. لذلك أعلن استقالتي من الحكم وشكراً .
استقال الرئيس كرامي دون أن يقدمها رسمياً إلى رئيس الجمهورية، بسبب استمرار الأوضاع الأمنية وتعثر المحاولات الوفاقية. وقد اعتبرت استقالة الرئيس رشيد كرامي استقالة موجهة ضد الآخرين جميعاً: ضد رئيس الجمهورية، وضد حلفائه الأعداء في القوات اللبنانية، وضد كميل شمعون والجبهة الوطنية، بمقدار ما هي موجهة ضد أصحاب مهرجان في الحمراء لمناسبة أول أيار من رفاق الصف والسلاح أيام زمان، من وليد جنبلاط ومن نبيه بري، وإن كانت كفة وليد جنبلاط ومن معه هي الراجحة.
وبهذا المعنى ألغت الاستقالة، نهائياً، صورة الانقسام الذي كان، ولعلها وفرت الفرصة لتقديم الانقسام بصورته الفعلية…
فهو ليس انقساماً طائفياً، ينتظم المسلمون طرفاً واحداً موحداً هنا مقابل المسيحيين كطرف واحد موحد هناك، بل هو انقسام سياسي له تعبيراته الحادة هنا كما له تعبيراته الحادة هناك.
وفي تلك المرحلة الصعبة حاول الرئيس رشيد كرامي أن ينتصر بقوة سلاح الموقف على المستقوين على البلد والعباد والدولة بقوة السلاح، فظهر في لحظة إعلان اليأس والعجز عن الحل كأنه أقوى منهم جميعاً برغم ميليشياتهم وهيمنتهم على العديد من المرافق العامة والمؤسسات الخاصة ووجوه النشاط ومصادر الإنتاج.
وأكد الرئيس رشيد كرامي، في معنى آخر، أن حكومة الوحدة الوطنية ليست حكومة، في أي حال، وليست بالتأكيد حكومة وحدة وطنية، بل هي مجمع لأسباب الانقسام ولرموزه وللمنتفعين به والعاملين من أجل إدامته وتشريعه.
وأكد الرئيس رشيد كرامي، في معنى آخر أيضاً، أن البلاد عليها أن تنتظر، في المستقبل، إما مؤتمراً دولياً للحل، أو نهاية العهد، أو الانتخابات الأميركية الجديدة، أو التغيير في إسرائيل، أو هذه الأمور جميعاً…
قتلوا رجل الدولة: رشيد كرامي شهيداً
أول حزيران ,1987 وعشية الذكرى الخامسة للاجتياح الإسرائيلي للبنان: رئيس مجلس الوزراء رشيد كرامي شهيداً.
قضى رجل الدولة ورجل الحل ورجل الأيام الصعبة، والمهمات الصعبة والوزارات الصعبة، ورجل المفاصل التاريخية في سيرة الاستقلال اللبناني، في عملية اغتيال غادرة أثناء توجهه من طرابلس إلى بيروت، على متن طوافة عسكرية تابعة للجيش اللبناني.
وأحدثت الجريمة موجة غضب عارمة وردات فعل سياسية أجمعت على إدانتها، وإعلان الحداد الوطني لمدة ثلاثة أيام. ووقعت جريمة الاغتيال في لحظة كادت القوى السياسية المتنازعة تتوافق على هدنة كانت مرشحة لأن تمتد حتى موعد انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية في صيف عام ,1988 وبالتالي فقد اغتيل مشروع هذه الهدنة، واغتيلت معه معظم احتمالات التوافق على رئيس جديد يمكنه أن يشكل بشخصه كما ببرنامجه المدخل إلى الحل العتيد للأزمة اللبنانية. وإن الجريمة التي وصفتها بعض أجهزة الإعلام الخاصة بأنها ثاني اغتيال سياسي بعد الرئيس بشير الجميل، تبدو كأنها الرد الإسرائيلي على إسقاط مشروع الحل الإسرائيلي، في ظل حصار بيروت صيف العام ,1982 وتصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين واضحة في التعبير عن أن رشيد كرامي قد استهدف بوصفه رجل الحل العربي السوري تحديداً في لبنان، وبهذا المعنى فإن إسرائيل التي لا تزال تحتل بعض الجنوب تبدو كأنها تتقدم شمالاً، وتطارد احتمالات اختراقها للنسيج الاجتماعي اللبناني لإخفاء دورها المباشر في الجريمة، والعمل بالتالي على تجديد الحرب الأهلية وإدامتها إلى ما شاء الله.
اغتيال رشيد كرامي قد كشف حقيقة أخرى موجعة، وهي أن لبنان، آنذاك، يكاد يكون بلا مرجع أو مرجعية مؤهلة ومقبولة من مواطنيه جميعاً، أو من غالبيتهم… فالضياع الذي شمل الناس، والحيرة التي تملّكتهم، كل ذلك قد أكد أن قيادات البلاد بمجملها تحت خط الخطر.. وأن غياب رشيد كرامي يُعيق الحلول السياسية، والحكم والقيادات الوطنية أمام تحدّ كبير
التاريخ يُعيد نفسه
إن الرئيس رشيد كرامي استشهد في ظروف صعبة، ساهم استشهاده في تغذية الصراع داخل لبنان وزادت الصراعات الإقليمية والداخلية، واستشهد الرئيس رفيق الحريري، بعد حوالى عشرين سنة، في حالة مماثلة من الانقسام السياسي الداخلي والصراعات الإقليمية والدولية، وهذا الاستشهاد فتح الباب واسعاً أمام خلافات جعلت من الواقع السياسي الداخلي والإقليمي مفتوحاً ومكشوفاً، لا سيما بعدما صدرت قرارات مجلس الأمن فأذكت الانقسام وأفرزت تحالفات جديدة على الصعيدين الداخلي والإقليمي وحتى الدولي. في ظل هذا الواقع كان لا بد من نشوء حوار داخل لبنان للوصول إلى قواسم مشتركة تجمع بين كافة الأطراف، حتى لا تعود بنا الصورة إلى مراحل من تاريخ لبنان إبان الحرب الأهلية البغيضة.
كلمة القيت بذكرى الرئيس رشيد كرامي بتاريخ 1 حزيران 2006