يتلاشى شعورك بالانسحاق كلما توغلت جنوباً…
مع بلوغك صيدا، البوابة والظهير، وانخراطك في سياق النقاش المهموم والمحموم للوقاعات والنتائج ووجوه التقصير والخلل ومخاطر التداعيات، تتهاوى حتى الاندثار ثرثرات المنظرين لحتمية القدر الإسرائيلي المخيبة كلياً للناس وقدرتهم على الفعل والتأثير وإفشال “المكتوب”، حتى لو كان معززاً بالرعاية الأميركية.
… فإذا ما قاربت خطوط التماس بالدم بين الأهالي البسطاء والعزل لا من إرادتهم وبين المدافع الإسرائيلية الهائلة في قوة تدميرها، أمحى إحساسك بالهزيمة وبدأ يخالجك زهو المنتصر!
أليس ثبات اللحم الحي للاجتياح بالنار، جواً وبراً وبحراً، انتصاراً للدم، دم فقراء الفلاحين في جبل عامل والبقاع الغربي، على أفتك القاذفات وأحدث الحوامات وأضخم البوارج والمدمرات والزوارق الحربية الإسرائيلية؟!
هل الأمر بهذه البساطة؟!
هل يكفي وجود الناس فوق الخرائب والحطام، دليلاً على أن أسبوع الدمار والقتل والتهجير قد انتهى بعكس ما أراده منه العدو؟! هل ذهبت كل تلك الأطنان من الصواريخ والقذائف الثقيلة، التي أردت البيوت وشردت أصحابها، وغيرت معالم المدن والقرى والمزارع، هباء منثوراً، فانتهى أثرها (العملي – أي السياسي) مع انتهاء رعودها المدوية؟
تركز وأنت تستمع إلى “اعترافات” الناس ونبض قلوبهم الواجفة، ثم وأنت تستقرئ نظرات العيون التي تعتق فيها الحزن حتى بات له مذاق الحكمة:
*”- المقاومة هي البقاء هنا، وها نحن هنا، وجودنا هو السلاح الأقوى. كلما ثقل السلاح وبعد مداه اختفى معنى المقاومة أو تشوه منقلباً إلى ضدها. المقاومة مواجهة وليست اغتيالاً عن بعد. المواجهة الأقوى هي الأقل حاجة إلى السلاح: أي الوجود والبقاء هنا. هذه أرضنا، هذه بيوتنا، هذه شجراتنا، هذه أصص زهورنا، الهواء أنفاسنا، والتراب أجداث جدودنا. كل شيء هو لنا. الأرض حفرناها بأظافرنا وغرسناها في زمن القحط وسقيناها عرق الجباه، أو إننا حملنا الماء من بعيد بعيد فجاء مختلطاً بعرق الجباه، كل شيء هنا أقمناه نحن، بنيناه نحن، زرعناه نحن، وهو ملكنا لأنه يختزن أعمارنا وموروث الأجداد.
“ليس هذا شعراً. إنها الحقيقة”.
*” نخاف؟! طبعاً نخاف. لكننا لشدة ما عشنا في قلب الخوف ألفناه فلم نعد نخاف الخوف!
“نعرف إن إسرائيل قوة عسكرية جبارة. هي الأقوى. وهذا يخيفنا خصوصاً وإن دولتنا – قيد التأسيس، بعد وهي ضعيفة أصلاً، وستبقى مهما قويت أضعف بما لا يقاس من أن تواجه إسرائيل عسكرياً… وهذا سبب للخوف…
“ونعرف أيضاً أن إسرائيل أقوى عسكرياً من العرب مجتمعين، لاسيما في الظرف الدولي القائم. هذا سبب ثان للخوف.
“ونعرف سبباً ثالثاً أخطر وأقسى: إن العرب مفككون ومنقسمون على أنفسهم، بل إن بعضهم يتواطأ على البعض الآخر، وهو في هذه الحالة كمن يعين العدو علينا،
“ثم إننا نخاف من أن نكون موضوع صفقة يقايضنا بعض أهلنا ببعض ما يطلبون من الإسرائيلي، مباشرة أو عبر الأميركي،
“وأخيراً فنحن نخاف أن يكون الأقوياء قد اختاروا أرضنا مسرحاً لصراعاتهم من أجل تقاسم النفوذ فنتحول نحن إلى “فكة” أو “فراطة” لتسوية الفروق الصغيرة في الحسابات الكبيرة”.
*”- هنا يمكن أن يندرج “حديث الفتنة” الذي يلغط به الكثيرون… ولكننا نعي خطرها، ولذا فلا نسمح لأحد بأن يستدرجنا إليها.
“كلهم أبناؤنا: من كان في “حزب الله” أو في “حركة أمل”، أو خاصة في الجيش اللبناني…
“الفتنة؟! هذه فقط لا نخافها”.
واقفة تموت الأشجار: هكذا بواكي الصفصاف في جباع!
لكن الينابيع تطلق ماءها غزيراً لحماية ما تبقى كما لاستنبات جيل جديد من شجر الصفصاف ليظلل الآتين طلباً للراحة والمتعة والهواء المنعش في هذا المصيف الجميل الذي يشكل قلب إقليم التفاح المنضوي تحت لواء جبل عامل.
الجرافات تزيل الركام بهمة ملحوظة، وثمة عمال في كل مكان ينشطون لإعادة مد خطوط الكهرباء وصيانة مواسير المياه التي فجرها حقد العداء للحياة…
الركام؟!
كم هي مستفزة الكلمة!
تعب النهارات، جيلاً بعد جيل، سهر الليالي، عذابات أيام الغربة والتشرد في أدغال أفريقيا، أو الاحتراق في حمارة القيظ في قلب الصحراء العربية، أو الانسحاق ذلاً في بعض شوارع بيروت والتلطي في بعض ضواحيها، جمعاً للقرش بعد القرش… الركام؟!
“… ولكني عملت كما البقر لثلاثين سنة طويلة، كي أوفر لأبنائي فرصة التحصيل، حتى لا يعيشوا مقهورين بذل الجهل والحاجة مثلي… ومعظمهم قد تخرج من أفضل الجامعات الأميركية والأوروبية، وعملوا فساعدوني حتى اشتريت عقاراً أكبر لابني فوقه بيتاً يتسع لنا جميعاً، مع حفظ حقهم في أن يبنوا بيوتهم متجاورين…
كيف يصير ذلك كله ركاماً؟!
“… فأما البيت فلقد جددته مرة، بل مرتين، قصفوه فأعدت بناءه. قصفه، في البداية، “الأخوان” (ويعني الفلسطينيين)، ثم قصفه “الأبناء” (ويعي أنصار “أمل” و”حزب الله”)، فأعدت بناءه مرة ثالثة… وأنا اليوم مستعد لأن أعيد بناءه مرة رابعة، بشرط أن أضمن أنه لن يهدم عبثاً ومقابل لا شيء، من جديد.
إنه العمر، فمن أين لي بالعمر الثاني؟! بل من يضمن لي إن العمر الثاني، فيما لو تيسر لي أن أعيشه، سيوفر الفرص الكفيلة بتمكيني من جمع ثروة جديدة لبناء بيت جديد في ظل نار الغلاء الكاوية؟! زمان، كان الخير كثيراً، وكانت البركة تحل في كل ما نلمسه… أما اليوم فلا نملك غير الدعاء بأن يرفع الله الغمة، وبأن يوطد وحدتنا ، وبأن يهدينا سواء السبيل”.
بقدر ما يستشعر الجنوبيون عرفاناً بجميل أخوتهم في مختلف أنحاء لبنان، فإنهم يحسون بالرضا عن النفس لأنهم وفروا الاساس المكين لتجديد الوحدة الوطنية.
“توقفت نار جهنم عند السادسة من مساء السبت، وفي الثامنة ليلاً كنت هنا في بيتي، وكانت طوابير سيارات العائدين بالمئات… أما يوم الأحد فكان عيد الأرض: لقد عاد الجميع تقريباً، حتى أبناء القرية التي لم يكونوا فيها خلال الاجتياح، جاؤوا معنا. امتلأت الأرض بالبشر. من أين جاء كل هذا الخلق؟! كيف حطموا قيود الخوف والإذعان، وبهذه السرعة، وعادوا متعجلين ورائحة الموت تملا المكان بعد؟!
“لا تسألني الأسباب. لم نكن نعرف ما هي شروط وقف النار، ولا ما انتهت إليه الاتصالات السياسية والمداخلات الدولية… ولم يسأل أحدنا نفسه عن ضمانات العودة، وضمانات عدم انفتاح جهنم مرة أخرى. كنا نريد أن نكون فوق أرضنا وكفى.
“على إننا لا ننسى إننا لم نسمع، لا جهاراً ولا همساً، كلمة تؤذي صمودنا، أو تلومنا عليه، أو نبرة شماتة وتشف، ولم نلمس أو نستشعر أدنى حركة تنم عن تواطؤ مع العدو. لقد شعرنا أن الكل معنا، وإنهم مدركون إن ما أصابنا سيأتيهم ولو بعد حين، فكان التضامن تعزيزاً لروح الصمود ومنطلقاً لطوفان العودة ومصدراً للاطمئنان النفسي على الغد…”.
هذا ما كان فماذا عما سيكون؟!
إن صورة المواجهة زاهية ومثيرة للاعتزاز والتفاؤل.
لكن مقومات الصمود في المواجهة – المقاومة، وضرورات بقاء الجنوبيين في جنوبهم (والبقاعيين في بقاعهم الغربي)، هي مصدر التساؤل المقلق.
إنهم باقون، ولكنهم يريدون بيوتهم… فلن يبقى أحد في العراء، ولن يرتضي أحد أن يجعل الخيمة مسكنه.
لقد انتصروا بعودتهم، كما انتصروا من قبل بصمودهم..
وهم يعرضون هذا النصر الآن على من يرغب أن يكون له فيه بعض شرفه.
إن من يبادر إلى مساعدتهم في إعادة بناء بيوتهم سيقاسمهم شرف النصر، وسينزلونه في قلوبهم ويحفظون جميله أبد الدهر.
إن ثمة نصراً باهراً معروضاً على كل أولئك المسحوقين بالهزيمة، والذين يتشهون شبهة نصر لكي يستعيدوا كرامتهم المعفرة بالتراب ودورهم الذي ألغوه بعجزهم أو بتواطئهم أو بتفريطهم أو بالكل معاً!!
ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالمسارعة إلى المساعدة،
فالكل في التخلي كانوا سواء، ومن يخرج على ذلك “الإجماع” المريب سيحصد الجوائز وسيضعه الجنوبيون تاجاً على رؤوسهم.
فمن عمر بيتاً في جنوب لبنان (أو بقاعه) أعطى أبناءه سبباً للاعتزاز به وبعروبته أو بدينه،
ومن عمر قرية كان كمن يحصن بيته حيثما كان في أرض العروبة والإسلام،
ومن بنى بضعة ملاجئ لبضع قرى في جنوب لبنان أو بقاعه حصن موقعه التفاوضي، وتمكن من انتزاع شروط أفضل للسلام الأميركي الآتي باسم النظام العالمي الجديد.
إنه نصر عظيم الشأن رخيص الثمن،
وهو نصر يطلبه من تبقت لديهم إرادة لمواجهة والصمود حتى لا نقول إرادة القتال، ولا يطلبه أو يسعى إليه أولئك المستسلمون سلفاً والذين وقعوا على بياض من قبل أن يطلب إليهم أحد أن يوقعوا.
لقد بذل الجنوب دمه،
وها هو يبذل نصره،
فليس اقل من أن يحمى هذا النصر الوطني والقومي طالما إننا عجزنا عن توفير الدم الغالي والبيت المختزن تاريخاً من الجهاد.
فمن يشتري النصر،
والسؤال مشروع طالما أن بعض أنظمتنا قد احترفت شراء الهزائم، وبالمزاد العلني،
وهذه “عاصفة الصحراء” و”تحرير الكويت” من بين أغلى الهزائم ثمناً وكلفة في التاريخ الإنساني كله!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان