لكل قراءته الخاصة لخطاب الرئيس حافظ الأسد في حفل افتتاح الدور التشريعي السادس لمجلس الشعب السوري:
وليس ذلك لأن كلام الرئيس الأسد عن “السلام” حمّال أوجه، وإنما لأن كل طرف يريد أن يضمن الكلمات المختارة بدقة ملحوظة ما يفكر أو ما يرغب فيه أو ما يتمناه أو ما يريد أن يروجه في هذه اللحظة السياسية الدقيقة،
وبالتأكيد فإن مصادفة إلقاء الخطاب في افتتاح المجلس الجديد المنتخب قبل أيام، عشية وصول وزير الخارجية الأميركية وارن كريستوفر إلى المنطقة في جولة مكوكية جديدة “لإنقاذ العملية السلمية”، تفتح باب الاجتهاد في التفسير على مصراعيه.
للعربي، مثلاً، قراءته التي تستخلص من الخطاب أقوى موقف تفاوضي عربي، برغم حراجة الظروف وتسلل معظم “رفاق السلاح” القدامى أو “رفاق الدرب” أو الشركاء العرب في العملية السلمية إلى معسكر العدو وبشروطه، وبرغم خطورة الانهيارات الواسعة والمتوالية التي تكاد تنقل المنطقة العربية من موقعها الطبيعي لتلقيها على حافة الاندثار وانعدام الدور، بعدما سلم ملوكها بالهيمنة الإسرائيلية وكأنها القدر!
وللأميركي قراءته التي ترى في خطاب الأسد ثباتاً على التزامه معه في عملية سلام محددة الأطر والمبادئ والمرجعية القانونية، واضحة الأهداف حاضراً ومستقبلاً، وليس فقط في ما يخص سوريا وغسرائيل، بل في ما يخص المنطقة بكاملها ومستقبل علاقاتها بالعالم.
وللأوروبي قراءته المحايدة نسبياً والمشجعة، موضوعياً، لهذه النزعة “الاستقلالية” السورية، التي ترفض الالتحاق والتبعية وتسليم المنطقة لإسرائيل، من دون أن تتخذ منحى انتحارياً رافضاً بالمطلق لأي سلام، متناسياً التحولات المذهلة التي غيّرت الكون وضربت الحد الأدنى من التضامن العربي، مسهلة لإسرائيل الظهور بمظهر القوة الوحيدة ومصدر التقدم الفريد، وواحة الديموقراطية الغربية اليتيمة في هذه المنطقة،
اما الإسرائيلي، فله، كما أظهرت ردود فعله الأولى، قراءتان للموقف السوري الجديد – القديم: الأولى قراءة علنية مخادعة يروجها على لسان وزير خارجيته شمعون بيريز لكي يسمعها الوزير الأميركي الآتي خلال أيام، وأيضاً لكي تسمعها “معارضته” في الداخل فتقتنع بأن الرئيس الأسد قد بدّل ثوابته و”استمع أخيراً إلى صوت العقل” فوافق على ما كان يرفضه من مطالب إسرائيل المنطقية،
والقراءة الإسرائيلية الثانية داخلية وسيتأخر إعلان مضمونها حتى لا تستفز الوزير الأميركي ولا تكشف ماهية المناورة الإسرائيلية الدائمة والتي تقوم على استدراج العرب لكي يعطوا ولكي يعطوا أكثر فإذا ما أعطوا كل ما لديهم انتهت المفاوضات قبل أن تبدأ، وبات سهلاً على “المفاوض” العربي أن يوقع على أي اتفاق منفرد لأنه لا يملك أي خيار آخر، ثم بعد التوقيع يبدأ بندب حظه لأنه قام بعملية “استربتيز” منفرة ومجانية!
الفقرة التي تركز عليها إسرائيل بوصفها “علامة التحول” هي التي يقول فيها الرئيس الأسد:
“إنني أؤكد كما أكدت سابقاً أن سوريا مدركة لأهمية السلام الذي يضمن الانسحاب الشامل، كما أنها مدركة أن للسلام متطلباته الموضوعية وستفي بمتطلبات السلام التي يتفق عليها..”.
ولأمر في نفس يعقوب، رأت إسرائيل في جملة “متطلبات السلام الموضوعية” تحولاً خطيراً في الموقف السوري، تماماً كما أرادت أن ترى قبل تسعة شهور في جملة “السلام قرار استراتيجي في سوريا”، التي أطلقها الرئيس الأسد في جنيف عند لقائه والرئيس الأميركي بيل كلينتون تطوراً بارزاً واستثنائياً… في حين أنه موقف سوري معلن وسياسة رسمية معتمدة، أقله منذ مؤتمر مدريد.
واللعبة باتت لكثرة التكرار سمجة: غداً تطلب إسرائيل من كريستوفر أن يستوضح الرئيس الأسد متى تستطيع أن توفد سفيرها الأول على دمشق ومتى سيصل أول فوج من السياح من سوريا عبر “خط الموت” السابق إلى إسرائيل، ومتى احتفال التوقيع و”المصافحة التاريخية” في حديقة الورد بالبيت الأبيض في واشنطن،
وبالطبع لن يستطيع كريستوفر الحصول على أجوبة مستحيلة، وهكذا ستقلب إسرائيل الأسطوانة وتملأ العالم صراخاً: “طالما قلنا فلم تصدقونا أن الأسد لا يريد السلام بل هو يعمل لتدمير إسرائيل، أما وقد ضبطتموه بالجرم المشهود فتفضلوا واقتصوا منه بوصفه المعادي الوحيد للسلام”!
إنه المفاوض العربي الوحيد،
ولأنه كذلك فإن كلماته المنحوتة من لحم الشهداء ودمائهم الغزيرة تفسر ذاتها بذاتها عبر استقراء التاريخ بل عبر استيطانه بفهمة العميق لدلالاته.
وعبارة “متطلبات السلام الموضوعية.. التي يتفق عليها..” لا تقرأ منفصلة عن عبارة “أن تحميل عملية السلام أكثر مما تحتل وما ليس منها لا يساعد عملية السلام بل يشل خطراً عليها، يجب ألا نقحم عملية السلام في ما هو خارج إطارها”.
والمعنى واضح، ولكن لا بأس من محاولة لتفسيره:
إن السلام هو نقيض الحرب. فالأمم لا تمضي حياتها في الحروب. ويستحيل أن تستمر الحرب إلى الأبد. لكن السلام لا يعني بالضرورة فتح السفارات ورفح الأعلام وتبادل الوفود والتكامل الاقتصادي والتنسيق الثقافي.
ثم أن الأمن ليس مطلباً خاصاً بالطرف الأقوى سلاحاً والأقدر على شن الحروب والمغطى دولياً بشبكة هائلة من العلاقات والولاءات الدينية والمصالح العظمى، شرقاً وغرباً،
الأمن، في ظل السلام، مطلب شرعي للطرفين، وهو مطلب أكثر حيوية للأضعف تسليحاً، والأقل قدرة على شن الحرب، وبالتالي فمن حق أي طرف عربي، وبالذات السوري (واللبناني استطراداً) أن يطلب لنفسه من الضمانات عبر الترتيبات الأمنية أكثر مما يطلب الإسرائيلي،
كذلك فإن التجارب البائسة للحلول المنفردة ناطقة، وبعضها ينزف دماً، كما في بعض فلسطين المحتلة.
مع الأردن لم تلتزم إسرائيل حتى هذه اللحظة بأي تعهد أو وعد أطلقته عشية التوقيع، لا بالنسبة لترسيم الحدود، ولا بالنسبة لمد الأردن بالمياه، ولا بالنسبة للتكامل الكهربائي أو التعاون السياحي الخ.
أما في غزة اليتيمة، حيث تحول الثوار القدامى إلى حرس حدود للاحتلال الإسرائيلي، فإن الذي “حمّل عملية السلام ما لا تحتمل وما ليس منها وما لا يساعد عملية السلام بل يشكل خطراً عليها” والذي أقحم “عملية السلام في ما هو خارج إطارها” يعاني الآن من الخيبة والإفلاس ونقمة الشعب الذي خذلته قيادته فضحت بانتفاضته من أجل “سلطة” تكاد تنحصر مهمتها في إشعال نار الحرب الأهلية التي فشل العدو نفسه فيإشعالها.
اليس “التطبيع” الكامل الشامل، كما تطلب إسرائيل، من خارج العملية السلمية؟!
أليس التكامل الاقتصادي (والسياحي والثقافي الخ) إقحاماً لعملية السلام في ما هو خارج إطارها؟!
أليس الإصرار على السفارات الإسرائيلية في عواصم عربية، وبالذات حيث يرفضها أهلها، تحميلاً لعملية السلام أكثر مما تحتل، فكيف إذا ما سبق ذلك الإلحاح على “مصافحة تاريخية” لا يقدم عليها – بحسب التجربة – إلا من سلم سلفاً بالشروط الإسرائيلية التي تكاد تكون نقيضاً للسلام ومسخاً له بحيث يستفز الناس ويخرجون عليه شاهرين سيوفهم؟!
ليس ما صدر عن بيريز ترحيباً “بموقف جديد” صدر فجأة عن الرئيس حافظ الأسد.
إنها محاولة ذكية للالتفاف على المعاني الأصلية للكلام، لتجنب صدام محتمل مع وزير الخارجية الأميركية الآتي لتجديد المحاولات المتكررة التي انتهت حتى الآن بالفشل بسبب التعنت الإسرائيلي، وبين نماذجه ذلك العرض “السخي” الذي حمله في آخر جولاته بالمنطقة والذي كشف النقاب عنه رئيس حكومة إسرائيل إسحق رابين، مؤخراً، وكان يقضي بانسحاب هامشي من الجولان، مع إبقاء المستوطنات الإسرائيلية منها، لفترة ثلاث سنوات، فإن حسنت سوريا سلوكها خلالها فتح باب البحث في هوية الجولان وأهله، وإلا اتهم حافظ الأسد بتخريب العملية السلمية!
فليس سراً أن المفاوضات التي توقفت جولاتها قبل سنتين تقريباً، ودائماً بسبب التعنت الإسرائيلي، إنما تتم الىن بواسطة الأميركي وعبره، توكيداً لدوره كراع لمؤتمر مدريد، وشريك كامل ووسيط نزيه.
لقد أعاد الأسد توكيد ترحيبه بهذا الدور الأميركي، ووضع – مرة أخرى – الحد بين ما هو مقبول وما هو مرفوض، ولأن الإسرائيلي محرج بهذا العرض الدقيق والذكي في صياغته، لا يستطيع أن يرفضه فوراً فيكشف تعنته أمام الأميركي، ولا هو يستطيع أن يرد عليه إيجاباً بإعلان استعداده للانسحاب الكامل من الجولان، لجأ إلى الحيلة التقليدية: قل “نعم”، علناً، ثم حرّك أكرة المسدس تحت الطاولة.
وليس إلا بعد مجيء كريستوفر وانتهاء مهمته في المنطقة، يمكن معرفة رد الفعل الإسرائيلي الحقيقي،
والأهم أن يعرف رد الفعل الأخطر تأثيراً على العملية السلمية بمجملها: الأميركي.
وسوريا غير متعجلة،
وحافظ الأسد أحد أهم من يتقن استثمار الوقت وتوظيف الزمن.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان