ذهبت المعارضة إلى المؤتمر الثاني للحوار الوطني في لوزان قوية جداً والمبادرة في يدها يواكبها الوعد – الحلم بالتغيير أو التطوير، ناهيك بالتطهيرن وعادت من ذلك المؤتمر التعيس أضعف مما كانت عشية السفر، السفر الذي كان سبقه قبل شهر واحد ذلك الإنجاز العظيم في بيروت ونوارتها الجنوبية.
وذهب الحكم ضعيفاً مهشماً مهزوز الشرعية معدوم القدرة، سياسياً وعسكرياً، وعاد من هناك وقد ربح ربحاً وفيراً هو مجموع ما خسرته المعارضة، أو بتعبير أدق: مجموع ما عجزت المعارضة عن تحقيقه.
فمجرد “الفشل” في لوزان كان – بمعنى ما – “نصراً” للحكم ومعه “الجبهة اللبنانية”، وخسارة للمعارضة، أو لكتلتها الأساسية ممثلة بحركة “أمل” ومعها الحزب التقدمي الاشتراكي…
كان الحكم مطوقاً ومعزولاً، عسكرياً وسياسياً، وكانت المعارضة الخارجة لتوها من سلسلة معارك سياسية وعسكرية ناجحة، أبرزها انتفاضة 6 شباط ، تطارد الحكم المتهالك بسلسلة من المطالب الراديكالية أبسطها إقالة رئيس الجمهورية ومحاسبته مع قيادات جيشه وحكومته وأعوانه عما جرى في الضاحية الجنوبية وبيروت وصولاً إلى توظيف ما حققته على الأرض لتطوير النظام بما يحقق مطامح الفئات الاجتماعية المحرومة والمغبونة والمتروحكة مناطقها للإهمال والريح قبل الاحتلال الإسرائيلي وبعده،
وهكذا لما استحال على المعارضة أن تأخذ من الحكم ومن معه ما تريد وما هي بحاجة إليه تحققت خسارتها، في حين كان باستطاعة الحكم ومعه “الجبهة اللبنانية” أن يتبجج بأنه لم يتنازل ولم يعط حتى القليل من المطالب، وإنه بالتالي قد ربح “حرب لوزان” الكبرى وإنها قد تعوضه بعض أو الكثير مما خسره ميدانياً في “حروب” الجبل والضاحية والعاصمة وسائر المناطق، عبر السياسة التي سلكها و”الجبهة” لتحقيق مشروع الهيمنة الكاملة على البلاد.
صحيح إن ربح الحكم كان ، وما يزال حتى هذه اللحظة، “سلبياً إذ هو لم يعوضه التأييد الشعبي المفتقد والتسليم برئاسته وشرعيتها، مما يحتاج إلى ما هو أبعد من خسارة الخصم كي يستعيده، ولكن خسارة المعارضة كانت جدية ومؤثرة على صورتها العامة كقيادة بديلة محتملة للبلاد، تتوافر فيها المؤهلات والصفات الضرورية للقيادة في مرحلة بهذه الحساسية والخطورة.
وإنصافاً فإن بعض خسائر المعارضة في لوزان كانت حتمية، إذ هي تتصل بتركيبتها ذاتها (جبهة الخلاص الوطني وحركة “أمل”) كما بتركيبة المؤتمر والتوازنات التي تحكمه، إضافة إلى دقة موقف حليفها السوري الذي كان لا بد أن يتحرك مبتعداً بعض الشيء عنها ليكون في الموقع الطبيعي: موقع الوسيط والموفق بين الأطراف جميعاً، والحريص على عدم إضاعة وهج الانتصار بإسقاط اتفاق 17 ايار، لأي سبب، ولاسيما إذا كان فئوياً أو محلياً أو يتعلق بجوهر النظام اللبناني. فالمعركة بالنسبة للسوري هي هوية البلاد القومية وليس نظامها السياسي وعيوبه.
على إن المعارضة منيت أيضاً بخسائر سياسية أخرى تحتاج إلى وقفة مصارحة ومراجعة حتى يمكن وقف التراجع ومن ثم تعويضها واستعادة زمام المبادرة، خصوصاً وإن المعارضة ما تزال في نظر المواطن مطالبة ومؤهلة لحمل راية الوطن وقضاياه الأساسية بدءاً من الجنوب وتحريره إلى إصلاح النظام السياسي وانتهاء بتوفير العلاج للمآسي المفجعة التي نجمت عن “حروب” الهيمنة التي تكاد تزيد عن مجموع ما لحق بالبلاد من أضرار على امتداد السنوات التسع الداميات.
*أول الخسائر وإن لم تكن أفدحها إن المعارضة قد خسرت، في اللحظة الحرجة، وحدتها، وصحيح إن أحداً لم يكن يتوهم في جبهة تجمع بين سليمان فرنجية ووليد جنبلاط ورشيد كرامي ونبيه بري (ومن خلفهم بعض أحزاب الحركة الوطنية وقواها) صلابة الالتزام العقائدي، أو حتى حيوية الترابط المصلحي ، لكن الصحيح أيضاً إن انهيار هذه الوحدة المرتكزة إلى موقف سياسي محدد في لحظة سياسية محددة فحسب، قد جاء مدوياًز
فبقدر ما بدا وكان السبب المباشر للانهيار هو التعارض في مصالح الطوائف، كان ذلك كسباً كبيراً لمنطق “الجبهة اللبنانية” الطائفي، وتبرئة ضمنية للحكم، فطالما إن الامتيازات ضمانات إذن فالهيمنة مبررة لأنها توفر مزيداً من الضمانات أو هي اجتهاد في هذا السبيل!
ثم إن خروج سليمان فرنجية على جبهة الخلاص أو منها بمبررات تبقى لها نكهة الطابع الطائفي يضعف بالضرورة صورة الكتلة الأساسية للمعارضة التي جعلت من إلغاء الطائفية السياسية مطلبها الأول والأبدي والأهم.
*ثاني الخسائر إن المؤتمر نفسه قد اننهى بلا نتائج تذكر. وطالما إن المعارضة ذهبت إلى المؤتمر لتأخذ ما تراه حقاً لها، فإن عودتها منه بغير فوائد خسارة مؤكدة كان من شأنها أن تضعف وتهز صورة انتصاراتها السياسية والعسكرية السابقة على المؤتمر. فقيمة النصر العسكري في تثميره سياسياً، فإذا طال عليه الزمن بغير أن يوظف ويعطي تأثيره المطلوب أخذ يتحول إلى عبء، خصوصاً وإن الخصم هنا هو الحكم أي الدولة، بهذه النسبة أو تلك.
فالمعارضة ليست الدولة وليست بديلها، حتى الآن… وانسحاب الحكم من الميادين التي هزم فيها يلقي على المعارضين أعباء هي بالأصل وبالضرورة أعباء أهل الحكم والقيمين على الدولة. وطريف أن نسمع الحكم كما الآن يكاد يتحدث بمنطق المعارضة، وأن نشتبه في لهجة المعارضة برنين صوت الحكم والدولة، لكن الطرافة ليست علاجاً وليست حلاً بل هي تضفي على الوضع كله طابعاً كاريكاتورياً يؤذي المعارضة لا الحكم المطروح مصيره، بعد، للنقاش والبحث.
*ثالث الخسائر وأفدحها إن المعارضة لم تستطع بعد لوزان أن تعيد ترتيب صفوفها، وتعيد صياغة برنامجها السياسي بما يؤكد بقاءها على مواقفها وصمودها وراء مطالبها العادلة.
لقد كان مهماً بطبيعة الحال أن تظهر المعارضة أقصى درجات الإيجابية في لوزان، وأن تتحاشى أن تلحق بها تهمة التسبب في نسف المؤتمر البائس الذي علق عليه اللبنانيون آمالاً مبالغاً فيها وأسقطوا عليه أحلام أعمارهم وأهمها الخروج من ليل المحنة التي تستطيل وتستطيل بغير أمل في حل أو تسوية أو مخرج من النفق المظلم.
لكن الأهم كان أن تظهر المعارضة بعد لوزان صاحبة قضيدة ، بل صاحبة القضية كما كانت قبله وخلاله، برغم كل المحاولات الإغراء بالعروض الرخيصة أو المفخخة.
وكان ضرورياً أن تعود المعارضة، بمن أراد البقاء في صفوفها، لتقول للناس: حسناً لقد حاولت في لوزان سلماً وعن طريق المنطق والحجة وتبيان عدالة المطالب، أن أصل إلى حل سياسي يوفر على لبنان المزيد من الدم المهدور والمزيد من الخراب والدمار ويوفر على اللبنانيين المزيد من التضحيات التي تضيع هباء مخلفة وراءها أكداس اليأس والقنوط، ولكنني فشلت للأسباب الآتية… على إن الفشل في لوزان ليس نهاية الدنيا ولا يجوز أن يكون، ولسوف نستمر في نضالنا السياسي (والعسكري متى لزم الأمر) لتحقيق أهدافنا جميعاً في بناء وطن واحد موحد لكل بنيه بغير تفريق أو تمييز بسبب الدين أو الطائفة أو المذهب، أو بسبب الاختلاف في الرؤية السياسية أو في الموقف من النظام.
كان ضرورياً أن تعيد المعارضة التأكيد على صفتها الأصلية: القيادة البديلة والمحتملة للوطن، بكل أبنائه وبكل مطامحهم المشروعة.
فخروج سليمان فرنجية من صفوف المعارضة عنصر سلبي، لكنه لا يكفي لا لطي المطالب ولا لتجميد المعركة ضد مشروع الهيمنة، ولا لتبديل الموقف من الحكم الذي لم يقدم بعد ما يعتبر من صميم واجباته إذا ما كان يريد الاعتراف بشرعيته والتسليم برئاسته: أي تصوره الواضح للوطن ومستقبله، بعيداً عن انتمائه الحزبي، وعن تجربته البائسة خلال الثمانية عشر شهراً الفائتة، بما فيها عقد الاتفاق مع العدو الإسرائيلي ثم إعلان إلغائه.
وعدم النجاح في انتزاع مكسب نوعي كإلغاء الطائفية السياسية من مؤتمر لوزان الطائفي، لا يجوز أن يوقف أو يخفف من النضال لربط الجنوب ببيروت وسائر أنحاء الوطن، وجعله هو الخبز اليومي لكل الناس: تحريره وتأمين سبل مقاومة العدو والتصدي لمخططه التفتيتي.
ففي الجنوب سقط الحكم، أول ما سقط، ومن الجنوب جاء المبرر الأول والأهم للمعارضة وبالجنوب وفيه يكون النصر الباهر للوطن ولحملة رايته وقضيته الأولى.
وإذا كان قادة المعارضة ما زالوا يتلاقون، على البعد، على طرح مطلبهم بإلغاء الطائفية السياسية والتأكيد عليه، فإن تأمين الحد الأدنى لفرص إنجاحه يستدعي الكثير من العمل السياسي والجاد.
وهذا يوصلنا إلى جوهر الموضوع ، أي إلى البرنامج الوطني الشامل للمعارضة الذي يقدمها للناس جميعاً، في الجنوب كما في الجبل، في بيروت كما في الضاحية، في البقاع كما في الشمال، في صورة القيادة المؤهلة للبلاد والقادرة على تحقيق ما عجز عنه الحكم، أو على الضغط على الحكم لإجباره على الانخراط في عملية تحرير الجزء المحتل من البلاد ومن ثم على إقرار ما لا بد من إقراره من إصلاحات في النظام السياسي.
ففي غياب البرنامج الوطني الشامل ستظل أطراف المعارضة متباعدة مهما تقاربت الأفكار ومهما حسنت النوايا ومهما تكثفت الاتصالات،
وفي غياب مثل هذا البرنامج ستظل المعارضة معارضات، وستظل تشكو بمجموعها من “بطالة سياسية” خطرة لا يقل خطرها عن تلك التي تعاني منها البلاد بسبب غرق الحكم فيها بعدما خسر معظم أصدقائه وعلاقاته المحلية والعربية والدولية.
ومع نجاح التجربة الأمنية في بيروت، أمس، ينفتح الباب لحديث آخر عن الهموم اليومية التي تكاد المعارضة تغرق فيها وتنشغل بها عن أهدافها الكبرى… وذلك حديث الغد.
ويبقى بعده حديث آخر وأخير عن الخطوط المتعددة المفتوحة الآن بين بيروت ودمشق، وما يمكن أن تنتهي إليه، عشية الزيارة الثانية للرئيس أمين الجميل، بكل ما سبقها وسيصاحبها ويعقبها من تطورات قد لا تكون كلها في صورة المفاجأة، ولكنها قد لا تخلو منها… فإلى غد.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان