“لبنانية” المواصفات هي الطريق بين جدة والطائف: تلتف حول الجبل بالعرضن لكي تبلغ قمته التي تبدو مسننة ومدببة ثم تفاجئك ببسطة فسيحة تفصلك عن القمة التالية الأكثر ارتفاعاً.
تبدأ “اللفة” بمنعطف حاد، وتنتهي بمنعطف أكثر حدة، وبين كل منعطف لافتة تحذير بالعريبة والإنكليزية… فالسرعة أو التسرع أو الغفلة أو التطرف يعني أن تسقط من شاهق، فلا تبلغ مبتغاك في القمة، ويبتلع القاع السحيق الصوت والصدى وطموحات الوصول إلى أعلى عليين.
ولقد يسرت المملكة لوفود “البرلمانيين اللبنانيين” أمر الوصول بسلام وجنبتهم “الدوخة” ودوار الطريق وممارسة هواية اللف والدوران مع الطريق الجبلي، وهكذا حطت الطائرات المثقلة بأحمالها من الطوائف في الطائف رأساً، ثم أقيمت من حولها حراسة مشددة في قصر المؤتمرات لا تخرج منه ولا يصلها فيه أحد، ولو عبر الهاتف، حتى لا يكون ثمة اتهام للخارج بالتحريض أو الإلهام أو التأثير من قريب أو بعيد.
والمملكة العربية السعودية تدرك خطورة المهمة التي انتدبت نفسها لها ولذا فهي قد اجتهدت لترتيب أدق التفاصيل، واستنفرت مشاعر الحذر فيها حتى لا تؤخذ على حين غرة، واختارت بعناية فائقة الأشخاص والتصرفات وربما الكلمات حتى لا يساء الفهم أو التفسير.
لا مجال للأخطاء ولا تساهل مع مقتضيات المهنة، ولا تسامح مع أي تجاوز، فالأمر خطير والخطأ في الشكل قد يؤذي المضمون، خصوصاً مع هؤلاء اللبنانيين الذين كثيراً ما تضيع الحدود بين الشكل والمضمون لديهم أو إنهم يضيعونها عمداً توسلاً لغاية أو لغرض… والغرض مرض، كما تعرفون.
التسميات محددة بدقة: توفر البرلمانيين اللبنانيين، ليست مصادفة، إنهم لم يسموا نواباً، الابتعاد عن التسمية يغيب الشكل ويحمي المضمون. إنه يعفي مثلاً عن مناقشة “رئاسة” حسين الحسيني ومدى شرعيتها.
بل إن هذه التسمية تطوي صفحة النقاش في “شرعية” مجلس انتخب قبل سبعة عشر عاماً، مع التنويه بأنه، وكما أشار الأمير سعود الفيصل المصدر الوحيد للشرعية في الجمهورية اللبنانية التي لما تزل قائمة.
التسميات محددة بدقة: وثيقة الوفاق الوطني المقدمة إلى مؤتمر البرلمانيين هي بند من بنود قرار قمة الدار البيضاء. المضمون محدد في القرار، والصياغة للجنة الثلاثية. من أعلن قبول القرار لا يستطيع رفض المضمون. له أن يناقش في الصياغة. له أن يناقش الشكل واللغة، ولكن “اجتهاده” في النهاية محكوم بقرار القمة العربية التي عززها تأييد دولي مطلق. من يعترض على المضمون إنما يواجه العرب جميعاً والعالم بأسره.
والوظائف محددة بدقة: للجنة العربية الثلاثية مهمتها، وللملكة مهمتها وللمؤتمر مهمته. لا اللجنة تنوب عن المؤتمر، ولا المؤتمر يحق له أن يتجاوز اللجنة وقرارها أما المملكة فمعنية بنجاح اللجنة والمؤتمر، لأن لها نصيباً كبيراً منه، أما الفشل – والعياذ بالله – فمؤذ للجميع.
والمملكة ليست مكاناً. إنها مناخ عام. وهي، بمعنى محدد، الزمان، ففي هذه اللحظة العربية تشكل السعودية مركز ثقل أساسي في السياسة العربية، فهي نقطة التقاطع وصلة الوصل بين الأنظمة العربية عموماً، وهي لبعضها المرجع والموجه ثم إنها الجسر والمعبر والمطهر مع الغرب الأميركي قيادة وخطة عمل.
ومع كل حذرها التقليدي فهي قد أقدمت، وقد فهم الكثيرون إقدامها على إنه مؤشر طيب. فلو كان ثمة احتمال جدي في الفشل لكانت ظلت على مسافة من النار، تسعى مع الساعين للتهدئة من دون أن “تتورط” مباشرة بحيث تحصد حلاوة النجاح أو مرارة الفشل.
“الفشل ممنوع”.. كما قالها الرئيس صائب سلامز
ولقد قرأ الجميع هنا هذا الشعار على إنه يتجاوز هواية صائب بك في صك الشعار المناسب لكل مرحلة. لقد قرأوه وكأنه إعلان صريح للمضمر في عقل المسؤولين السعوديين وضميرهمز
ثم إن تصرفات هؤلاء المسؤولين تؤكد هذا المعنى:
فليس بالمصادفة أن يعطي الملك فهد حديثاً خاصاً، لبنانياً من حرفه الأول إلى حرفه الأخير، غداة افتتاح مؤتمر البرلمانيين، ليقول ما لم تسمح الأصول بقوله مباشرة في خطاب الافتتاح الذي ألقاه نيابة عنه وباسم اللجنة العربية الثلاثية العليا الأمير سعود الفيصل.
الخطاب محكوم بالأصول البروتوكولية، أما الحديث ففيه التعهدات المباشرة من المملكة وملكها فهد بن عبد العزيز. من هنا فهو يرد على التحية بأجمل منها: اخترتم السعودية، وبالإجماع، هذا يسعدنا ويلزمنا بأن نقدم العون الذي تريدون في أية مرحلة بحثاً عن التسوية النهائية. وإذا كان اللقاء في المملكة إنجازاً تقدره اللجنة ومن ورائها الأمة العربية، فإن المملكة لن تتأخر عن القيام بواجبها في إعادة إعمار لبنان، بل وهي مستعدة لأن تدعو الآخرين، عرباً ومسلمين وحتى الأسرة الدولية، لتحمل مسؤولياتهم تجاه إعادة إعمار لبنان.
بعض الصحافيين الأجانب هنا قالوا: هذه هي الجزرة،
وبعضهم مضى أبعد فقال: هذه هي نصف قطعة النقد، أما النصف الآخر فيعطي بعد إنجاز التعهد المقابل في بيروت.
إلى جانب الحديث الصحافي، قبله وبعده، كان الملك فهد حريصاً على متابعة التفاصيل أول بأول. وواضح أنه لم يكن وحيداً في هذا المضمار، إذ فهم إنهم في دمشق كذلكن وبالطبع في بيروت، وكذلك في واشنطن التي أوفدت القائم بالأعمال في السفارة الأميركية ببيروت سترفيلد ليراقب عن كثب وليوافي رؤساءه بالتفاصيل.
… وليس أكثر من التفاصيل اللبنانية التي قد تتحول – في أي وقت – إلى أمور جوهرية ومبادئ تستنبت المواقف العقائدية “المناضلة” من أجلها.
عين الملك وأذنه وذراعه اليمنى في المؤتمر: الأمير سعود الفيصل. إنه حاضر كل الوقت، يستقبل الجميع وينشر الاطمئنان ويهدئ روع المتخوف ويحاور المتشكك ويقول ما ينبغي أن يقال. لكأنما أسلوب التعاطي مع المسألة اللبنانية استثناء عما تعودت المملكة ودبلوماسيتها أن تراعيه، من تصدى للحل عليه أن يواجه، وأن يعلن ما تستدعي خدمة الحل أن يقال.
ومع الأمير سعود جهاز يعاونه إضافة إلى الرجل – الجهاز بذاته رفيق الحريري.
ورفيق الحريري لا يخفي سعادته بهذا الإنجاز الذي حققته المملكة وتحقق لها. وهو سعيد للمملكة قدر سعادته للبنان، واثق بأننا نعيش بداية النهاية للحرب المديدة التي دمرت لبنان وكادت تقضي عليه شعباً ودولة، أرضاً ومؤسسات.
ماذا يستطيع النواب، هؤلاء الذين ظلوا منسيين ومعطلين زمناً طويلاً قبل أن يتحولوا إلى مصدر خطر فيتهم جلهم إن لم يكن كلهم بالخيانة والعمالة للأجنبي والتخاذل والفرار من التجند في “حرب التحرير”؟!
من المؤكد إنهم ما زالوا مبهورين ومأخوذين. ومثقلين بوطأة المهمة التي ألقيت، فجأة، على كواهلهم الضعيفة.
أصاروا هم الآتين من الماضي مصدر شرعية نظام المستقبل؟!
أصاروا هم الذين لم يحاربوا يوماً “المسؤولين” عن إنهاء الحرب وفتح الباب للفجر اللبناني الآتي والذي لا ريب فيه؟!
ومؤكد إنهم بذلوا جهداً لتذكر “وظيفة” النائب ومسؤوليته التي تشمل وتغطي الوطن كله و”الأمة اللبنانية” بأسرها. لقد فقدوا العادة، وأخذتهم الطوائف بعيداً عن “البرلمانية” و”الديموقراطية”. كذلك فقد أخذهم الخوف من أصحاب السلاح إلى إظهار التطرف وأحياناً إلى ممارسته، وغالباً باسم الطوائف.
صحيح إنهم يمثلون “لبنان بأسره”، ولكن أصحاب السلاح ينكرون على أي منهم تمثيل منطقته وجهته وطائفته.
صار المسلمون – بأكثريتهم – يمثلون بالكاد بعض “الغربية”،
وصار المسيحيون – بأكثريتهم – يمثلون بالكاد بعض “الشرقية”.
وضاع المجلس النيابي وظيفة ومهمة وحتى مكاناً.
ها هم يتلاقون بعد طول افتراق. وأيضاً بعد اغتراب…
وها هي الكلمة تستعيد اعتبارها. وما أشد شوقهم إلى الكلام. فليعطوا إذن المنبر حتى يقول كل منهم ما عنده، سواء ما يريد أن يوصله إلى بيروت وعواصم أخرى أو ما يريد أن يقوله لتوكيد عودة الروح إليه وعودته إلى الوعي بعد غياب طويل عنه.
هل استعادت الكلمة سيادتها، فعلاً؟! هل تحررت من الخوف بل من الخوفين: خوف المحاسبة عليها إن قيلت، وخوف المحاسبة عليها إن هي لم تقل؟!
إن الضمانات كثيرة ومؤكدة وبينة… فاللجنة العربية تنطق باسم قمة ضمت الدول العربية الاثنتين والعشرين، ثم إنها حظيت بتأييد مائة وست وخمسين دولة بينها تلك الكبرى والعظمى الدائمة العضوية في مجلس الأمن و”الأقوى” داخله وخارجه.
لكن “الغائبين الكبار” فيشتدون في المحاسبة بأكثر مما تندفع “الدول” في الحماية، هل ينفع مجلس الأمن في رد غضبة “العماد” أو “القائد” أو “حضرة الرئيس” أو “الأستاذ” وبشكل خاص الذين انتدبوا أنفسهم لتمثيل الله، جل جلاله، على الأرض؟!
صحيح إن اللجنة قد هيأت الظروف لانعقاد المؤتمر، وإن المملكة ارتضت أن تستضيفه، وإن بيانات التأييد سبقت الدعوة إليه، وإن الكونغرس الأميركي – أو بعضه – قد بعث برسالة دعم فضيحة، لكن القلق أعمق من أن يزول بهذه السرعة، فالخطأ هنا قاتل والذين بيدهم السلاح لن يضيعوا وقتهم في احلوار.
لا بد من الصبر وطول الأناة، فلينفسوا ما يحتبسونه في صدورهم، وليقولوا كل ما يريدون قوله. ليطرحوا كل هواجسهم ومصادر قلقهم والمخاوف القديمة (التاريخية) والمستجدة، ليسألوا عن الضمانات وعن مصير الامتيازات وعن حدود الاصلاح المطلوب وهل هو نهائي أم هو مرحلي له ما بعده.
لا بد من الوقت – لا بأس، ليأخذوا وقتهم. النتائج أثمن من الوقت.
اللجنة قد وفت بوعدها ونفذت ما هو مطلوب منها، والنتائج – منذ هذه اللحظة – مسؤولية اللبنانيين، ومن اللبنانيين ونيابة عنهم وباسمهم هؤلاء الاثنين والستين نفراً، ممن جاء بعضهم وكأنما ليلقي خطبة الوداع أو ليلقي كلمته الأخيرة مختتماً إياها بإشهاد الله وعبيده: اللهم إني قد بلغت.
حتى الصورة كانت مؤثرة. فبعضهم يكاد يكون عاجزاً صحياً. وبعضهم يستعين بنجله أو بقريب أو معاون لكي يستطيع أن يصل ويوصل كلمته.
والبعد جفاء أما القرب فإنه أرض حوار فلقاء على ما يجمع ويوحد.
من هنا إن المؤتمر بلا أخبار. إنه يتلخص في خبرين كبيرين: الأول إنه انعقد ، أما الثاني فإعلان النجاح، سيما وإن الفشل ممنوع.
و”البرلمانيون” إنما جاءوا لتقنين النجاح، وهم يجتهدون في استعادة قدراتهم وفي تنشيط ذاكرتهم لاستذكار نصوص الدستور والقوانين والاجراءات.
إنهم هنا محكومون بالنجاح، ولكنهم لا يكفون عن التساؤل: أترى الحكم يسري على الذين يحكمون ويتحكمون بلا حاجة إلى برلمان وبرلمانيين؟1
… لعل المكان يساعد. فحيث يجتمع البرلمانيون ويمضون أوقاتهم، نهاراتهم ولياليهم، وحيث يقيم الصحافيون، إنجاز سعود حققه لبناني هو رفيق الحريري.
ومؤكد إن صورة “اللبناني” كمساهم في تحقيق الإنجازات العمرانية، محلياً وعربياً، أقرب إلى النفس والقلب من الصورة التي أظهرته بها الميليشيات.
في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، أيام “الدولة” في لبنان، كانت تجرى، بين الحين والحين انتخابات نيابية يؤكد فيها الشعب الطيب إخلاصه واستمرار ولائه للزعامات التاريخية الفذة التي جمعت في أشخاصها الأديان والطوائف والمذاهب. المصالح والغرائز والعواطف والأحلام والطموحات والمطامع، ثم الأجيال، الراحل منها والقائم والصاعد.
كان ثمة لوائح شطب، ودوائر انتخابية، وقوائم لكل زعيم قائمة من لم يدخلها لم تقم له قائمة حتى لو نال الأصوات جميعاً.
وكان ثمة لجان فرز تتولى إحصاء الأصوات، وتعلن النتائج بعد أن يعتمدها وزير الداخلية ومن فوقه… وكان الذي فوق يجيز للوزير أن يفوض اللجان الاستعانة بالأموات، إذا لزم مرشحو القصر بضعة آلاف من الأصوات، أو أن “يغيب” من أحياء أولئك المشاكسين الذين لا يظهرون الاحترام الكافي لأصول اللعبة الديموقراطية.
كانت اللوائح سهلة التركيب. زعيم ذو حظوة، ومتمول بعيد النظر يدفع ليأخذ أكثر وبعض المرضي عنهم والمقربين من القصر، ثم بعض “الزلم” الذين يستمدون “نورهم” من “الزعيم” أو يعكسون نوره على الجمهور، ولكنهم يجتهدون في خدمة هذا الجمهور ولو كأفراد ويقيمون الصلات الطبيعية معه يدخلون البيوت كلها، يأكلون من خبز الناس ويعرفونهم بأسمائهم.
من “قديم الزمان” يخرج إلى الحاضر هؤلاء الذين غيبتهم عاديات الزمان،
هل هم في مستوى المسؤولية؟!
هل استوعبوا الدروس القاسية واكتووا بالتجارب المرة بحيث يدركون الآن إن الوطن أغلى من النظام، وإن الدولة أبقى من الرئاسة، وإن الرئاسة أهم من الرئيس، وإن “الشعب” هو الباقي وهو – وحده – مصدر شرعية النظام والرئاسة والرئسي والبرلمان والبرلمانيين؟!
الكل هنا يأملون، وينشرون جواً من التفاؤل والأمل بأن تستمر مسيرة التسوية بغير معوقات.
ومع التفاؤل لا بد من الانتظار، حتى ينجز الذين هنا وحتى يقر الغائبون الكبار (أتراهم سيبقون كباراً وإلى متى) ما يتم إنجازه في هذه المدينة التي لا تحب أن يلحق بها اللبنانيون “ياء النسبة”، فهم قد جاءوا إليها “طائفيين” ولم يتطافوا فيها، بل هي تجتهد لأن تخفف هذه العلة فيهم.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان