أخيراً يمكنك أن تتنفس ملء رئتيك… بل في وسعك أن تتمطى فلا يصطدم ذراعاك بحدود المدينة – الكهف – السجن – القبر التي قدر لك أن “تعيش” فيها سنوات الموت المؤجل الطويلة…
لقد أزيحت صخرة أخرى عن صدر المواطن، وتم فتح شريان أساسي آخر كان مسدوداً، فاستعاد النبض إيقاعه وهبت نسائم العافية جبلية وشمالية تنعش بيروت التي تخرج لأول مرة – فعلياً – من الحصار الطويل الذي فرض عليها فحولها من أميرة للفرح والإبداع والحيوية وخصوبة الإنتاج إلى أرملة مهجورة تعاني من ذل السؤال بأكثر مما تعاني من بؤس الحال،
الأهم، إن بعض البديهيات قد استعادت أو هي تستعيد الآن اعتبارها: فطرابلس على بعد ساعة من بيروت، وليست كل منهما على أحد طرفي القطب، وما بينهما طريق ساحلي تحف به بساتين الليمون والزيتون والتين والخروب وبعض المدن الصغيرة والقرى الوديعة، وليس جبالاً من الأحقاد وأنهاراً من الدماء وتاريخاً متصلاً من المواجع والغربة والعداء المر.
نهر الكلب هو نهر الكلب بآثار أقدام العابرين على صخوره، وبدير مار عبده المشمر في تلك “الجزيرة” المسحورة المخدرة بعطر زهر الليمون أبداً إلى يمين الجسر العتيق،
ونهر جبيل هو نهر جبيل بأسطورة عشتروت والخنزير البري الذي صرع حبيبها أدونيس، هو نهر جبيل وحكاية الأسطورة “الفينيقية” تنساب رقراقة مع المياه الضحلة للنهر ذي الاسم المدوي،
الناس هم الناس، بفقرائهم والأغنياء، بلهجاتهم التي تتمايز من قرية إلى أخرى فتمدهم بمادة للسخرية و”المعايرة” بحجم التخلف،
المستحدث طارئ أو هجين ونسبه “الحربي” واضح: من نادي اليخوت في جونيه الذي صار مرفأ مزدوج المهام بين “مدنية” و”حربية”، إلى ذلك الجزء من الأوتوستراد الذي “رسم” مدرجاً لمطار وهمي حمامته مقعدة على شاشة التلفزيون مروراً بالمرافئ التي أقيمت على عجل أو صودرت واستغلت للتهريب أو “للتهليب” وهو النهب بالتعبير الدارج لأخوتنا المصريين.
أما البربارة فقناع “للطارئ” السياسي الذي خرق النسيج الاجتماعي في لبنان ونجح في تأجيج الحرب بين أفراد العائلة الواحدة إلى حد تدمير الذات.
وها هو الطارئ يتهاوى مخلياً الطريق لتستعيد طبيعتها كأداة اتصال بين الرئتين وليس كخط نار يفصل ما يقتله الانفصال.
مبروك، ولا تغيروا العادات القديمة، فكأس “الليموناضة” في البترون تشفي العليل، وماء الزهر في القلمون تأشيرة دخول لا بد منها للقاصدين شمالاً وإلى شمال الشمال.
مبروك، ولكن لا بد من بعض الملاحظات السريعة التي تربط “السياسي” بما هو “سياحي”، وتربط الإنجاز بوظيفته المرتجاة…
*الملاحظة الأولى – إن “الدولة” تنهي التماهي بينها وبين الميليشيات التي نشأت كالطفيليات على أنقاضها، فأخذت منها مرافقها ومرافئها، مؤسساتها وإداراتها وأجهزة الخدمات وصولاً إلى … جمهورها.
وما تزال ثمة ضرورة ملحظة لأن تعمل الدولة لاستعادة جمهورها الطبيعي، وبكفاءتها الذاتية وبدورها الطبيعي، لا أن تستكين إلى وهم مفاده: إن كل من ترك غيرها من “الدول” أو “الدويلات” قد عاد إليها.
*الملاحظة الثانية – إن المواطن وهو ينهي تماهية مع الميليشيا يجد إن عليه أن يعبر الطائفة للوصول إلى الدولة، في حين إن مطمحه ومرتجاه كان أن تأخذه الدولة من الطائفة لا أن تلزمه بالعودة إليها لكي تعترف به.
*الملاحظة الثالثة – إن “الدول” قد بدأت تنهي وجودها خارج الدولة، ولكنها تنتظر بعد أن تستكمل الدولة “جهوزها” وتلغي بحضورها وقرارها كل خارج عليها.
*الملاحظة الرابعة – بين صورة “الإنجاز السحري” الذي يشهد الناس تحققه مشدوهين، وبين صورة الدولة كما تقدمها مؤسسات الحكم، مسافة واسعة.
في لحظات يبدو وكأن الدولة عبر أشخاص الحاكمين أصغر بكثير من الإنجاز الذي يقدم باسمها،
كذلك يبدو، في بعض الحالات، وكأن الإنجاز أسقط بالبراشوت، ففاجأ حتى الدولة، وأعياها اللحاق به لتبنيه ومهره بالخاتم الرسمي.
وليس غيباً أن يكون القرار بإنهاء الحرب الأهلية، ومن ثم بالحل، دولياً، ذلك إن القرار باستمرار هذه الحرب الأهلية طيلة هذه السنوات كان قراراً دولياً،
لكن العيب أن تسقط بعض مؤسسات الحكم في “الامتحانات الشفوية” في حين إنها تحقق نجاحات “خارقة” في الامتحانات الخطية الصعبة للغاية.
*الملاحظة الخامسة – إن الدولة عزيزة على قلوب اللبنانيين كما لم تكن في أي يوم، وهم قد يتساهلون في شروط عودتها وإعادة بنائها ومدى ملاءمتها لشروط العصر،
لكن هذا التساهل قد يكون مصدر خطر على الدولة العتيدة، فالتهاون اليوم قد يفقد اللبنانيين الفرصة اليتيمة (ربما) التي واتتهم كي يقيموا الحصن المنيع لوحدتهم الوطنية.
من هنا فإنها فرصة للتأمل وليست مناسبة لاستسهال الأمور والافتراض أن “السحر” سيكون دائماً تحت الطلب، وإن “القرار الدولي” سيكون باستمرار رهن إشارتنا.
فليس المطلوب أن تعود الدولة التي كانت، بجيشها الذي كان، وبأساليب عملها التي أسست للحرب الأهلية،
والسؤال: من هو المعني بتوفير الضمانات، والساهر على منع الخطأ أو الخلل في القانون أو في الممارسة، بحيث تتحول هذه اللحظة التاريخية من نقطة نهاية للحرب إلى نقطة بداية لعصر السلام الوطني؟!
في أي حال، فإن أهم ما في قرار الجيش لبسط سلطة الدولة على ما استرد من أراضيها إنه قد تم في موعده بالضبط،
وبعد الجبل والمشال العقبى للجنوب الأسير!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان