لم تكن فكرة الدولة قوية يوماً في لبنان بقدر ما هي عليه من قوة اليوم.
وإنها لمفارقة مفهومة أن تكون فكرة الدولة على هذا القدر من القوة، بينما الدولة، بمؤسساتها وإدارتها وأجهزتها عموماً على هذا القدر من الضعف والركاكة والانسحاق.
الدولة، أخيراً، هي الملجأ والملاذ لجميع اللبنانيين باختلاف انتماءاتهم الفكرية وأوهامهم وأحلامهم ومشاريعهم السياسية التي شكلت ذات يوم راية “نضالاتهم” ضد الدولة أو تأييداً لها عبر “الحاكم” الذي جسد للبعض بطلاً كان على الدوام مفتقداً.
الدولة هي المآب وحسن الختام لجميع الخائبين والفاشلين والمحبطين والمهزومين في حروب متعددة الجبهات، سيقوا إلى بعضها بالغريزة وإلى بعضها الآخر بالانتفاع، وخاضوا معظمها مضطرين وبلافتات هجومية وإن من مواقع دفاعية.
“تكسب الحرب يا بني عندما تعود إلى منزلك”…
ولقد اقتنع اللبنانيون إن “منزلهم”، الذي بوصولهم إليه ينتهي زمن الحرب، هو الدولة، والدولة فقط.
أي دولة؟!
لعل الجواب الفوري للأكثرية: أي دولة…
لكن الجواب “الموضوعي” هو “دولة اتفاق الطائف. أي الدولة المحددة الهوية والدور كنتيجة للانتماء القومي لشعبها، والمحدد نظامها في الاقتصاد وفي التربية والتعليم والانتخاب والتقسيم الإداري و”العلاقات المميزة”.
ولقد كانت ادلولة في زمن ما قبل الحرب، ثم خلال دهر الحرب الأهلية، مرفوضة من موقعين على طرفي نقيض.
كان المسيحيون إجمالاً، والموارنة على وجه الخصوص، يتعاملون معها كملكية خاصة ولكنهم يتجاوزونها بتطلعاتهم. يرونها “أكبر” من “محيطهم” ويرون أنفسهم “أكبر” منها، لا يقبلون المساس بها مع إنهم يظهرون في كل لحظة إنهم إنما يقبلون بها على مضض، بصيغتها القائمة، وبشرط ألا يزاحمهم على النفوذ والسلطة وحق الانتفاع بها وفيها أي مزاحم.
وكان المسلمون، إجمالاً، يتجاوزونها لشعورهم بغربتها عنهم وغربتهم فيها. وكانوا يرون إنهم إنما يكبرون ويستعيدون توازنهم “بمحيطهم” أي بتوكيد انتمائهم القومي. ولعلهم كانوا يرتضون أن يتهموا بأنهم يستقوون على دولتهم بالقوي من العرب، وبشكل أساسي سوريا ومصر وفلسطين، لأنهم يرون إنهم بذلك يساهمون في تصحيح المسار وفي تجليس المعوج من السياسات والممارسات الشاذة.
فمن يضطهدهم ويغبنهم في “الداخل” فيلغي أو يهمش دورهم ويفتئت على حقوقهم أو يتحايل عليها بتصنيفها طائفية ليسخفها أو ليجعلها سبة وشبهة بينما هو يتابع العمل لتوكيد هيمنته الطائفية.
… هو هو من يعادي “المحيط، ومن موقع “الاستكبار” والترفع وادعاء الانتماء إلى مجتمعات أعرق وحضارات أرقى.
أي أن “الدولة” تكون معادية للعروبة، في الداخل والخارج (أي في المحيط) بقدر ما يسحبها الحاكم – مستقوياً بحصانته الطائفية – بعيداً عن واقع شعبه وأمته.
فالطائفي ليس عدواً “للعرب” فحسب، بل هو قبل ذلك معاد للبنانيين، حتى إذا ما اعتبرهم أو قرر – منفرداً، وبوعي أو لا وعي – إنهم ينتمون إلى جنس آخر أو كوكب آخر!
الطائفي ليس غربياً. فالغرب بمجمله قد غادر الدين من زمن بعيد.
والطائفي ليس شرقياً. والشرق بمجمله يحاول بغير نجاح حتى الآن أن يتعرف، مجدداً، إلى الدين.
الطائفي إما منحرف ومتآمر وإما تاجر دجال وإما ضحية مرض خطير.
والطائفي لا يمكن أن يقيم دولة، لأن “الدولة” – وكيفما كانت – لا يمكن أن تقوم فتستمر على الطائفية ولا يمكن أن تكون (أو أن تدوم) دولة طائفية.
حتى الدول الدينية انقرضت.
وإسرائيل ليست الشواذ الذي يثبت صحة القاعدة، فالدين ذريعة تموه به المصالح الغربية، الإمبريالية بالضرورة، التي أملت قيامها كدولة ووفرت لها التفوق العسكري الكاسح والدعم الاقتصادي غير المحدود لتضمن لها الاستمرار، الذي يبقى مهدداً طالما بقيت جسماً غريباً ومعادياً بالطبيعة لمحيطه الممتد بين الأطلسي والهندي.
… ولقد أسقطت الحرب، في جملة ما أسقطته، تلك العلاقة غير الشرعية بين الدولة وبين الطائفة، وبين الطائفية الطائفة الممتازة.
وبالمقابل فقد حاول اتفاق الطائف أن يرسي الدولة الجديدة على توازن طائفي بقاعدة واسعة، من شأنه إذا تحقق أن يحل ما هو سياسي، ومن ثم اقتصادي – اجتماعي، محل ما هو طائفي.
كذلك، وكنتيجة، فقد أسقطت الحرب التنظيمات والأحزاب والميليشيات الطائفية، التي تتراكض الآن لتنفي عن نفسها التهمة، أو لكي تعيد صياغة نفسها طالبة ألا تحاكم بمفعول رجعي.
وملفت هذا التبرؤ المتزايد من تهمة الطائفية والانعزال والانغلاق وادعاء الانتماء إلى “مجتمع” من لون طائفي واحد.
لقد سقط الوطن القومي المسيحي، وسقط المجتمع المسيحي، وسقطت الجمهورية الإسلامية، وسقط الكانتون الدرزي وسقطت الكيانية الشيعية المتوهمة.
وطبيعي أن تسقط مع هذه الأوهام التنظيمات التي تاجرت بها على امتداد سني الحرب الأهلية، والتي منها استمدت الوقود والضحايا والنفوذ والنفع الفخم… وبالدولار.
الأهم إن الدولة – الطائفة قد سقطت، والطائفة – الدولة قد سقطت.
وطبيعي بالتالي أن تكون الدولة الجديدة مختلفة نوعياً وإن ظلت على قدر من التشابه في الشكل.
غداة الاستقلال تنبأ الزميل الكبير الراحل جورج نقاش بعدم قابلية النظام أو الكيان أو الدولة في لبنان للحياة عبر مقالته الشهيرة “سلبيتان لا تقيمان أمة”.
كان يرى أن تسليم المسيحيين مضطرين بوجه عربي للبنان مقابل اضطرار المسلمين إلى القبول بسلخ لبنان عن سوريا وطي علاقته بالوحدة العربية، لا يؤدي إلى قيام وطن.
لعلنا اليوم نشهد الأمر مقلوباً: لعلنا نشهد توفر إيجابيتين يمكنهما متحدتين المساعدة على قيام دولة تجسد بذاتها حلم الوطن.
لعل “المسيحي” قد سلم أخيراً أن الدولة (ودولة اتفاق الطائف تحديداً) هي ضمانته وهي مصدر حمايته وأمنه واستقرار بلاده وتجديد ازدهارها الأسطوري.
ولعل المسلم سيجد أخيراً في هذه الدولة “دولته” التي لا ينكر فيها ذاته ليكون.
لعل المسيحيين قد تواضعوا، نتيجة لتهاوي المشاريع الوهمية، فارتضوا لبنان بدولته وحقائقه التاريخية والجغرافية.
ولعل المسلمين قد “كبروا” بحيث باتوا جديرين بالمشاركة مع “الجناح” الآخر.
إن الكل يسعى الآن إلى الدولة ويطلبها بعد رحلة عذاب طالت وأفنت عمره وأحلامه.
لا حل إلا بالدولة، لا مخرج من الأزمة إلا بالدولة، لا سلام إلا بالدولة، لا حاضر ولا مستقبل إلا بالدولة، وأخيراً فلا وطن إلا بالدولة وعبرها.
من هنا فالدولة هي الأقوى لأن لا خيار لأي لبناني خارجها،
فهل يفيد الحكم من هذا الواقع، أم يتردد ويرتبك ويتخوف ويتعثر فتضيع منه الفرصة القدرية التي قد لا تتكرر؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان