لأمر استغلقت على الناس أسراره، باتت معارضة هذه الحكومة، بالكلام أو بالإيماء أو حتى بهز الرأس وقلب الشفتين، تهمة أو شبهة، وفي حالات معينة جريمة يستحق مرتكبها العقاب الصارم والفوري.
… لكأنه الطعن في الذات الملكية، أو التشكيك بزوجة القيصر التي هي فوق الشبهات، أو في مستوى إحراق العلم الأميركي!
مع أن اللبناني، في العادة، متعجل ومرتحل ومرتجل ومتحول مع ميل غريزي إلى المعارضة والتذمر والتأفف وإظهار الضيق لمناسبة أو من دون مناسبة.
ثم إن المعارضات التي عبرت عن نفسها بمواقف علنية، حتى هذه الساعة، هي – بوجه العموم – أقل مما يجب، وأخفت صوتاً مما تستوجبه اللعبة الديموقراطية، كما أنها منضبطة، وبعضها محدود التأثير، وهي قد تناولت مسائل كبرى كانت من قبل وما تزال الآن موضع خلاف أو اختلاف كالشركة العقارية للوسط التجاري في بيروت أو أساليب إنماء الضاحية، ناهيك بوزارات الخدمات والأمور الحياتية وكلها معتل والشكوى منها ومن القيمين عليها بمثابة تحية الصباح.
كأنما تأييد هذه الحكومة، جملة وتفصيلاً، وعلى كل ما تفعله أو لا تفعله، هو بين شروط الانتماء الوطني وسلامة الطوية والحرص على سلامة البلاد، في حين أن أي اعتراض – ولو بالهمس – يمكن أن يزعزع الثقة الغالية التي حظينا بها أخيراً والتي لم يكن لبنان قبلها ولن يكون بعدها شيئاً مذكوراً.
وبعض أنماط التأييد أقسى وقعاً على الحكومة من معارضتها العلنية،
كما أن بعض المعارضات ذات الطابع الشخصي لرئيسها تقدم له خدمة جلى، إذ تعيد تزكيته إذا ما قورن ببدلائه المحتملين!
ولولا شيء من التحفظ لجاز القول إن التأييد المطلق هو المشبوه وليست المعارضة التي لا بد منها لترشيد الحكومة، رئيساً ووزراء، خصوصاً وإن نسبة كبرى منهم “أغرار” في علم السياسية و”طارئون” على لعبة السلطة في بلد ذي نظام يقترب بهذه النسبة أو تلك من الديموقراطية البرلمانية وحرية التعبير،
وبالتأكيد فإن الاعتراض على سياسة الاقتراض، مثلاً، المعزز بالبيئة والحجة والرقم، أجدى وأنفع لحكومة بعض رأسمالها قدرتها المفترضة على تأمين المساعدات وليس القروض التي يمكن لأية حكومة أخرى أن تعقدها،
أبسط دليل أن القرضين اللذين اقرا، من حيث المبدأ، حتى الآن، كانا قيد الإنجاز على عهد حكومات سابقة.
فالقرض الإيطالي كان أمام المجلس النيابي لاعتماده، وكل ما تم “في ظل” الحكومة الحالية أن المجلس قد عدل فيه ووضع بعض القيود الضرورية على وسائل التنفيذ،
وكل ما طرأ على قرض البنك الدولي المنجز والمعلن رسمياً عنه قبل بعضه شهور، إضافة مبلغ 25 مليون دولار للغسكان، فارتفعت قيمته من 150 إلى 175 مليون دولار.
كذلك فإن الاعتراض، مثلاًن على قلب الأولويات من إعمار فإنماء إلى إنماء فإعمار، كما تم عبر مشروع مداخل بيروت وتحسين أوضاع الضاحية، الذي زيدت كلفته من 306 ملايين إلى 660 مليون دولار، بينما خزينة الدولة تشكو من عجز متفاقم، أجدى للحكومة من التهليل لمشروعر غير منتج (على ضرورته) ولا تتوفر القدرات المادية لتنفيذه بالسرعة المطلوبة.
إن القروض تؤجل الأزمة ولا تلغيها، والمشاريع الواجب تنفيذها هي تلك التي تعطي مردوداً فورياً أو سريعاً بحيث يتناقص العجز من دون اللجوء الآلي إلى زيادة الضرائب والرسوم، مما يحوّل الأزمة الاقتصادية إلى قضية اجتماعية متفجرة.
والثقة رأسمال هائل، لكن تعريضها للاهتزاز يؤذي الوطن والمواطن بأكثر مما يؤذي الحكومة. والتنبيه إلى ضرورة الحرص عليها وحمايتها من الهزات والخضات والنكايات والمكايدات الشخصية التي يسهل تغليفها بشعارات براقة تدغدغ العرائز أو مكامن لقهر، أجدى وأنفع للحكومة ورئيسها من تحريضها على مقارعة أي معترض وكل معترض وتسفيه القائلين بالحرص على “التوازن والتعاون” والتعالي بالوعي السياسي فوق كل ما هو شخصي وعائلي ومن دائرة أصحاب الحظوة.
والحمد لله أن الهزة التي أصابت السوق النقدية قد تمت السيطرة عليها بسرعة، برغم أنها كلفت البلاد أكثر من قيمة قرض البنك الدولي (الذي لما يصل)، وكلفت رئيس الحكومة بعض رصيده الشخصي، خصوصاً وقد اضطر إلى إعلان نزوله على حلبة الصراع بما يملك دعماً لمصرف لبنان والليرة المهيضة الجناح.
وهل إن الدعوة إلى تفادي مثل هذه الهزات، بنتائجها الوخيمة على المال العام كما على الرصيد الخاص تصبح تهمة يرد عليها بأساليب بائدة عفا عليها الزمن وباتت ممجوجة وترتد على مطلقيها، كان يطعن فوراً في أمانة المعترضين أو يصنفون أتباعاً أو عملاء لهذه “الدولة” أو تلك!
إن التأييد المطلق اعتداء مباشر على الشعب وعلى الحكومة: على وعي الناس ومعرفتهم بحقائق حياتهم وإدراكهم أن عصر المعجزات والسحرة والأنبياء المعصومين قد مضى وانقضى ولن يعود،
كذلك فهو اعتداء على الحكومة لأنه يحملها فوق ما تطيق ويجعل حسابها في الغد أقسى وأمر لأنه سيرتب عليها أن تعطي بقدرما أخذت وهي لن تستطيع إلى ذلك سبيلاً مهما أنجزت، لأنها أعطيت ما لم يعط لأية حكومة قبلها.
وإذا صدقت المعلومات التي يشيعها بعض المؤيدين بالمطلق بأن رئيس الحكومة يعد بياناً يذيعه على الشعب ببرنامجه وخطته، لمناسبة “المائة يوم في القصر” فإن ما تتمناه الغالبية الساحقة من اللبنانيين أن يأتي هذا البرنامج دقيقاً ومحدداً ومعبراً عن تواضع الإمكانات الذاتية (لاسيما في غياب المساعدات الموعودة).
إن المصارحة بالوضع المفجع لن تفاجئ اللبنانيين لأنهم يعيشونه، لكن التمويه أو تغليف الحقائق بالأوهام هو القاتل،
وأهم ما يطلبه الناس أن يتم الفصل وبالمطلق بين رفيق الحريري رجل المال والأعمال الناجح، وبين رفيق الحريري رئيس حكومة لبنان المفلس والمدمر والذي أنفض عنه كل الذين بذلوا فيه الأموال بغير حساب لتسعير الفتنة خدمة لأغراض سياسية مشبوهة بداية وانتهاء.
… ولاسيما وإن أولئك الذين توقع لبنان مساعدتهم مشغولون الآن بتوزيع أموالهم (أو ما تبقى منها) على الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا العظمى وتركيا لتنشيط الصناعات العسكرية فيها، من أجل أن يشتروها هم، مرة أخرى، حتى لا يستخدموها… اللهم إلا ضد “رعاياهم” أو “أشقائهم” العرب، إذا ما استخدموها!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان